تشهد دول القرن الأفريقي أسوأ موجة قحط منذ أربعة عقود، واحتل غول الجفاف مساحات واسعة، وما زال يلتهم أراضي عديدة في جنوب الصومال ووسطها، نتيجة الأمطار الشحيحة التي لم تهطل لثلاثة مواسم كانت مطيرة في السابق. وخلفت موجة التغيرات المناخية التي يشهدها العالم فيضانات جارفة وحرائق تلتهم الغابات عن آخرها، وجفافا هو الأطول منذ عقود، إلى درجة أن الأنهار بدأت تجفّ، ولم تعد تروي ظمأ البشر والطيور، بعد أن تحوّلت، في بعض مناطق الصومال، إلى ساحاتٍ يمارسها الشباب في مسابقاتهم الكروية المفضلة.

في تقارير أممية صادمة، أزاحت اللثام عن مآسٍ تفوق الخيال تواجهها دول القرن الأفريقي، خصوصا الصومال وكينيا وإثيوبيا، وأن نحو 22 مليون شخص يواجهون شحّاً شديداً في الحصول على المواد الغذائية، تسعة ملايين منهم يعيشون في إثيوبيا، بينما يواجه نصف سكان الصومال 7.8 ملايين شخص (من إجمالي عدد السكان، 15 مليونا) أزمة جوع تهدّد حياتهم، إذا لم يقدّم المجتمع الدولي مساعدات إغاثية عاجلة (مليار دولار) لدرء شبح المجاعة في جنوب الصومال، خصوصا في إقليم باي (جنوب البلاد) الذي يقبع في عين عاصفة الجفاف والكارثة الإنسانية التي يترقبها الصوماليون، بعد نفوق ما يقارب ثلاثة ملايين رأس من المواشي، وتلف المحاصيل الزراعية؛ حيث تغطي رقعة الجفاف حالياً تسعة أقاليم من 18 إقليما في البلاد، ما يعني أن 40% من المجتمع تعتمد حياتهم على المواشي والزراعة.

التنبيه الذي أطلقه أخيرا وكيل الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، من مقديشو مطلع سبتمبر/أيلول الحالي، عن إمكانية حدوث مجاعة في الصومال بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول المقبلين، يعد بمنزلة جرس إنذار أخير قبل العاصفة التي ستكون أشدّ ضراوة من مجاعة عام 2011، والتي أدّت إلى وفاة 250 ألف صومالي، من بينهم أطفال وأمهات وكبار السن، المصير ذاته يواجهه ملايين من البشر في منطقة القرن الأفريقي، نتيجة انعدام الأمن الغذائي بفعل الأزمة الغذائية العالمية وتأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا التي شلت إمدادات القمح إلى العالم، خصوصا أفريقيا، هذا إلى جانب عدم قدرة دول المنطقة على مواجهة تداعيات الجفاف، وباتت صيحات الاستغاثة، الموجّهة إلى الهيئات الأممية والدول الأوروبية والخليجية، السبيل الوحيد لإنقاذ سكان المنطقة من الموت جوعاً، لكن المساعدات هذه تطاولها أيادي الفاسدين الذين يتربّحون على حيوات البسطاء والمعوزين، ويتاجرون بالمواد الغذائية المخصصة لهم، يزدادون تخمةً، بينما يبقى الجياع هياكل عظمية تلتصق بطونهم بظهورهم لشدّة الجوع، ما يضاعف حجم الكارثة الإنسانية في تلك المنطقة التي تمتاز بأرضها الخصبة الصالحة للزراعة، لكن التخلف والجهل والفساد أبقتها غير صالحة للعيش عقودا.

اللافت أن إعلان المجاعة في منطقة القرن الأفريقي بات قاب قوسين، والوضع الإنساني في تلك المنطقة، خصوصا الصومال، يستكمل تدريجياً المعايير المعتمدة لدى الأمم المتحدة لإعلان حالة المجاعة؛ حيث تسجل يومياً أعداد وفيات الأطفال نتيجة مضاعفات سوء التغذية. وأشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى وفاة ما يقرب من 700 طفل في الصومال بين يناير/ كانون الثاني ويوليو/تموز الماضي، كما أن توسّع رقعة الأراضي التي يلتهمها الجفاف في ازدياد كالنار في الهشيم، هذا فضلاً عن قلة الاستجابة الدولية والإقليمية لمنع حدوث مجاعةٍ أضحى الأطفال وكبار السن وقود نارها، حيث كشف تقرير لبرنامج الغذاء العالمي أن نحو 1.5 مليون طفل في الصومال مهدّدون بالموت، نتيجة نقص في الحصول على الأغذية، من بينهم 300 ألف طفل يواجهون مضاعفات سوء تغذية حادّة. وأكد المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي ديفيد بيزلي في زيارته الأخيرة إلى مقديشو في يوليو/تموز الماضي أن نحو 2.5 مليون شخص في القرن الأفريقي على شفا الموت جوعاً، داعياً العالم إلى استجابة عاجلة لإنقاذهم من الموت قبل فوات الأوان.

تبقى الكارثة الجيلية التي لا تشدّ انتباه الجميع في عدم توفر برامج حكومية بعد حدوث المجاعة ومرور العاصفة، رغم قساوتها المتوقعة، لإعادة تأهيل النازحين، حيث تترك ظاهرة النزوح أزماتٍ ديموغرافية سكّانية تنجم عنها تحدّيات أمنية واجتماعية، حيث يتزايد أعداد المهاجرين من الريف إلى المدن، في غياب برامج حكومية إنمائية لإعادة تمكينهم من الحياة في القرى والمناطق التي فرّوا منها بسبب الجفاف، حيث تبقى الأراضي غير صالحة للعيش، بعد أن فقدوا الأمل فيها نتيجة الكلفة الباهظة التي تحتاجها مزارعهم لإعادة إحيائها، كما أن مسألة توفير مشاريع اقتصادية مدرّة للدخل باتت مستحيلة في وضع اقتصادي مربك، تشهده أغلب دول القرن الأفريقي بفعل حروب وصراعات مسلحة لا نهاية لها، وتفتقر برامج المنظمات الأممية في المنطقة إلى تنفيذ مشاريع إنمائية طويلة الأمد، لمواجهة جذور مسببات أزمات الجفاف والقحط، والحد من تداعياتها، وهو ما يؤكّد أن إطالة أمد أزمات النازحين واللاجئين عالمياً جزء من سياساتٍ دوليةٍ لعولمة الفقر واللجوء والتشرد في أصقاع أفريقيا، وفي بعض المناطق في الشرق الأوسط.

ألمح الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، في خطاب غاضب، إلى أن المناطق التي تسيطر عليها حركة الشباب هي الأكثر تضرراً بفعل الجفاف، ويواجه السكان فيها موتاً بطيئاً، وأن تحريرها من الحركة واجب أخلاقي وديني. لكن الرئيس أعلن، قبل ذلك، أن مناطق في جنوب بلاده على شفا الجوع، مطالباً بمضاعفة الجهود من الشعب الصومالي في الداخل والمهجر، بدعوى أن الجهود المحلية هي الأكثر ملامسة لأوضاع المتضرّرين من أزمة القحط. وأرسل نداء استغاثة كالعادة إلى المجتمع الدولي بمنع حدوث مجاعة وشيكة في بلاده التي تكالبت عليها الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية ثلاثة عقود.

في النهاية، يتسلى بعض الإعلاميين في وسائل الإعلام الدولية، سيما العربية منها، بأن لا تولد صومالياً بداية لفقرات نصوصهم الإخبارية وتقاريرهم التلفزيونية لشد انتباه الجمهور، لكن المسألة أكبر من تعبيراتٍ بلاغيةٍ أفرغت من مضامينها لا تغني ولا تسمن من جوع في زمن القحط، بل ما هو مخجل استخدام صور وتركيبها بمشاهد أخرى من بلدان أفريقية ودمجها قصصاً منتقاة تجافي الحقائق في المشهد الإنساني في الصومال. في المقابل، تحتاج هذه الأزمة إلى وقفة إعلامية عربية جادّة لإغاثة البسطاء من الخلق في منطقة القرن الأفريقي، وفي الصومال تحديداً.

المصدر : العربي الجديد

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.