على الرغم من أنني سافرت إلى العديد من البلدان الكثيرة في عالمنا المعاصر، إلا أنني لم أزر الصين مطلقا حتى السادس من نوفمبر 2024، وذلك عندما كان لي شرف حضور ندوة التفكير حول الأمن والحكم والتنمية في القرن الإفريقي، التي نظمتها جامعة زينجيانغ العادية، والتي أقيمت في مدينة جينهوا بمقاطعة تشنجيانغ. جمعت الندوة 14 خبيرًا وعالمًا وممارسًا من سبع دول في القرن الإفريقي الكبير: الصومال، وجيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا، والسودان، وأوغندا، وكينيا. كان الهدف من الندوة هو تعزيز الحوار حول الأمن والحكم والتنمية في القرن الإفريقي، مع تركيز خاص على كيفية استفادة هذه المنطقة من تجارب الصين واستراتيجياتها في هذه المجالات الحيوية لتقديم رؤى ودروس قيمة في مواجهة التحديات المماثلة والقائمة في القرن الإفريقي الكبير  

خلال الندوة، ساهم المشاركون في مناقشات معمقة مع علماء ومشرعين وخبراء صينيين، الذين قدموا رؤى ثمينة حول استراتيجيات الصين في إدارة التحديات الأمنية، وتنفيذ الإصلاحات الحكومية، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية. شملت الفعالية زيارات لعدد من المدن والشركات الخاصة المشاركة في قطاعات الأمن والحكم والتنمية، مما أتاح للمشاركين فرصة التعرف عن كثب على النهج الصيني في التحديث الحضري والنمو الصناعي، وكذلك جهودها الأوسع لبناء مجتمع أكثر استقرارًا وازدهارًا. قدمت هذه الزيارات أمثلة عملية حول كيفية تعامل الصين     مع التحديات الرئيسية، وهو ما كان ذا صلة خاصة بالنقاشات حول منطقة القرن الإفريقي الكبيرة. كما تناول العلماء القضايا الملحة التي تواجه القرن الإفريقي، مع التركيز على التداخل المعقد بين الأمن والحكم والتنمية في المنطقة. كانت هذه الرحلة فرصة قيمة لاستكشاف التفاعلات بين الممارسة والتوجهات في ثقافة حكم الصينوالتحديات التي تواجه الدول الإفريقية النامية. وقد سهلت تبادلًا ثريا بالأفكار ووجهات النظر المتعددة. وبإلإ ضافة إلى ذلك، وفرت الندوة فرصة للتفاعل مع العلماء الصينيين حول فلسفة الحداثة في الصين، والتحديات والفرص التي تواجهها في تعزيز التنمية والازدهار، مما قدم دروسًا يمكن أن تُفيد في جهود مشابهة     في إفريقيا.

أحد أكثر الملاحظات لفتًا للانتباه التي سجلتها خلال الندوة كان التباين الواضح بين النهج الغربي والصيني في التحديث وفهم الحداثة. في النموذج الغربي، يُعتبر التحديث غالبًا عملية تقضي على دور التقليد، وتُرى التقاليد عائقا يجب التغلب عليه أو التخلص منه نهائيا لصالح التقدم. في المقابل، يعتمد النهج الصيني في التحديث على فلسفة الحداثات المتعددة، التي تسعى إلى التناغم بين الحداثة والقيم والتقاليد الثقافية. تتبنى هذه الفلسفة الفكرة القائلة، إن التحديث لا يجب أن يأتي على حساب التقليد؛ بل يمكن للحداثة والتقاليد أن يتعايشا معًا، ليغني كل منهما الآخر ويقويه باستمرارية.

إن مفهوم التناغم بين الحداثة والتقاليد هو درس عملي في غاية الأهمية، وهو ما تحتاجه العديد من الدول النامية في إفريقيا بشكل ملح. بالنسبة للدول مثل الصومال، حيث تشكل الهياكل القبلية والتقاليد الإسلامية جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي، فإن فكرة التناغم بين الحداثة وهذه العناصر الثقافية العميقة الجذور لا تقتصر على كونها ذات صلة، بل هي ضرورة سياسية جديرة بالتوقف عندها أوالاستفادة منها ميدانيا. على مدار سنوات، كنت أؤكد على هذا النهج التوافقي تحديدًا، داعيًا إلى أن التحديث في الصومال وفي دول مشابهة لا ينبغي أن يتضمن رفض التقاليد أو إلغاء أهميتها في تطوير منظومة الحياة المجتمعية ،بل يجب أن يكون هناك توازن دقيق وتناغم—يُحترم فيه الحداثة ويُدمج القيم التقليدية معها، بما في ذلك الهوية القبلية والإسلام. توفر التجربة الصينية مثالًا قويًا حول كيفية تحقيق ذلك أو التوليف عمليًا، مما يقدم خريطة طريق محتملة لدول مثل الصومال لاستكشاف مسارها الخاص نحو التنمية دون التضحية بالأسس الثقافية التي تشكل هويتها السياسية. هذا هو النهج الذي يمكن أن يساعد       في خلق نماذج تنمية أكثر شمولًا واستدامة، وتلك تجربة تتناسب مع السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية الفريدة لكل دولة.

والملاحظة الأخرى التي رأينها في الصين، كانت الانضباط الملحوظ لدى الشعب الصيني والنظافة اللافتة في الشوارع. في كل مكان زرناه، كنا منبهرين بمدى النظام الذي كانت عليه الأماكن العامة، حيث الشوارع والحدائق والمناطق العامة كانت تُحافظ عليها بشكل جيد. هذا المستوى من المسؤولية المدنية لا يعكس فقط السياسات الحكومية، بل يعكس أيضًا التركيز الثقافي على احترام المصلحة العامة. كان الناس واعين جدًا بعدم إلقاء القمامة والحفاظ على النظافة في مجتمعاتهم، وهو ما يمثل تباينًا صارخًا مع التحديات التي تواجهها العديد من الدول النامية حيث يمكن أن تُترك الأماكن العامة مهملة. إن التزام الصين بالنظافة متأصل بعمق، مع جهود تنظيف منتظمة من قبل السلطات والمواطنين على حد سواء، مما يخلق بيئة ليست فقط جميلة ولكن أيضًا تُساهم في الصحة العامة. إن هذا الشعور بالانضباط والنظام في الأماكن العامة هو شيء يمكن أن تنظر إليه الدول الأخرى، بما في ذلك الدول في القرن الإفريقي الكبير كنموذج لتعزيز الفخر المدني وكذلك المسؤولية البيئية، وإحساس أقوى بالانتماء للمجتمع.

خلال رحلتي إلى الصين، أتيحت لي أيضًا الفرصة القيمة للقاء الطلبة الصوماليين في جامعة تشنجيانغ، بالإضافة إلى التفاعل مع المجتمع التجاري الصوماليين في مدينة ييوو. تتركز الأعمال التجارية الصومالية في مدينتي ييوو وقوانغتشو. وقد قدمت هذه المجتمعات التجارية استقبالًا حارًا لنائب السفير الصومالي في الصين، حيث كنت أنا والأستاذ يحيى عامر مدعوين لهذا الحدث. هذه التفاعلات وفرت لي وجهة نظر فريدة حول الروابط المتنامية بين الصومال والصين، خصوصًا في مجالات التعليم والتجارة. في عام 2022، أصبحت الصين المصدر الأكبر للواردات الصومالية، حيث شكلت 18.1% من إجمالي واردات البلاد. تضمنت أبرز صادرات الصين إلى الصومال الأقمشة المنسوجة، والحديد المسطح المغلف، والإطارات المطاطيةالتي تلعب دورًا أساسيًا في البنية التحتية والقطاعات الصناعية في الصومال. مع استمرار الصومال في إعادة البناء والتحديث، تعتبر هذه السلع حيوية لدعم صناعاتها التحويلية والاقتصاد الأوسع. لقد أتاح لي التبادل مع الطلاب الصوماليين والمجتمع التجاري فرصة لاستكشاف كيفية تطور هذه العلاقات التجارية، بالإضافة إلى إمكانيات التعاون المستقبلية      في قطاعات مثل التعليم والتكنولوجيا والتجارة والصناعة، وهي مجالات قد تعود بالفائدة     على كل من الصين والصومال معا على المدى الطويل. كما أن الوجود القوي للواردات الصينية في الصومال، يسلط الضوء على تزايد الترابط بين البلدين، مما يوفر فرصًا للمؤسسات التجارية والمهنيين الصوماليين للتفاعل بشكل أعمق مع النموذج الاقتصادي الصيني واستراتيجيات التنمية .

علاقات التجارة بين الصومال والصين لها تاريخ يمتد لأكثر من ألف عام، ويتميز بتفاعلات مبكرة عبر الاستكشاف والتجارة. في القرن التاسع، زار المستكشف الصيني توان تشنغ- سبي مدينة بوبا-لي الصومالية، والتي يُحتمل أن تكون مدينة بربرا في الشمال. في وقت لاحق، في عام 1225م، وثق المستكشف الصيني تشو كواكوا زيارته لشبه الجزيرة الصومالية. وكان من أبرز هؤلاء المستكشفين الأدميرال تشنغ هي، الذي زار في عام 1430م مدنًا صومالية رئيسية مثل مقديشو وزيلع ومركة وبراوي . بالمقابل، في القرن الرابع عشر، سافر العالم الصومالي الإمام سعيد المقدشي إلى الصين ممثلًا سلطنة الأجوران خلال فترة حكم سلالة يوان. ازدهرت التجارة بين المنطقتين، حيث كان الصومال يصدر الزرافات، والحمير الوحشية، والعاج، والسلع الغريبة الأخرى، بينما كان يتلقى في المقابل السيراميك الصيني، والتوابل، والبنادق.  

علاوة على ذلك، أقامت الصومال والصين علاقات دبلوماسية في عام 1960، بعد وقت قصير من استقلال الصومال، حيث كانت الصومال داعمة قوية لسياسة “ الصين الواحدة” وطلبها للحصول على مقعد في الأمم المتحدة. كانت علاقتهما مستندة إلى القيم المشتركة مثل السيادة، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل. في السنوات الأولى، لعبت الصين دورًا حيويًا في تطوير البنية التحتية للصومال، بما في ذلك بناء طريق مقديشو-هرجيسا الذي يمتد لمسافة 1500كم، وهو أطول طريق في الصومال، وسهل التجارة والاندماج الوطني. كما ساهمت الصين في بناء مؤسسات وطنية هامة مثل المسرح الوطني وملعب الرياضة، ودعمت لإنشاء المدارس والمستشفيات والمصانه والبنية التحتية العامة، مما ساعد في تحديث الصومال بعد الاستقلال. زادت الزيارات المتبادلة على مستوى عالٍ بين البلدين من تعزيز علاقاتهما السياسية الثنائية، مما ساعد على تعزيز التعاون في السياسة والاقتصاد والثقافة.

واليوم، لا تزال الصومال والصين تحافظان على علاقة وثيقةمتنامية، حيث يتعاونان في التجارة والتعليم والتبادل الثقافي، مما يعكس قوة الشراكة الدبلوماسية والتاريخية بين البلدين

كانت هذه الرحلة إلى الصين ذات معنى خاص بالنسبة لي، حيث أتيحت لي الفرصة للقاء الدكتوره وي شو، نائب مدير معهد الدراسات الإفريقية في جامعة زينجيانغ العادية، الذي قامت، إلى جانب الدكتورة هدن عثمان، سفيرة الصومال في الصين، وكان اهما دورًا رئيسيًا في ترجمة كتابي فهم تاريخ الصومالإلى اللغة الصينية. بدأ مشروع الترجمة قبل عامين، عندما طلبت الدكتورة هدن إذني للقيام بالترجمة خلال مؤتمر Heritage Institute فيجيبوتي. كان لقائي مع د. شو لحظة هامة، وشكل نقطة تحول في التبادل الأكاديمي بين الصين والصومال وساهمت في سد الفجوات الثقافية والتاريخية. لقد كانت هذه التعاون المباشر تجربة مثمرة، بنيت على الاحترام المتبادل والتبادل العلمي، وكان من الرائع أن أرى تطور هذا المشروع في الصين.

لقد نال الكتاب اهتمامًا واسعًا وإشادة مشجعة، مما أدى إلى ترجمته باللغات العربية، والصومالية، والتركية، والصينية ويعكس جاذبيته الواسعة وأهميته وصوله إلى جمهور عالمي متباعد جغرافيا. ساعدت هذه الترجمات في وصول الكتاب إلى قراء من خلفيات ثقافية ولغوية متنوعةليشمل تأثيره إلى أكثر من مجرد العالم الناطق بالصومالية. الكتاب متاح الآن في المكتبات الكبرى وعلى منصات دولية مثل أمازون، مما يجعله في متناول الجميع الذين يريدون وصوله. إن توفر الكتاب بعدة لغات سيساهم في تعزيز التفاعل الثقافي الدولي مع الصومال، وسيساعد في زيادة الاهتمام بالدراسات الصومالية ودعم حقل التاريخ الإفريقي الأكاديمي والبحث العالمي بشكل عام.

تقدم الترجمة الصينية لكتابي التاريخي إعادة تقييم نقدية لتاريخ الصومال، متحدية السرديات الغربية النمطية حول التحديث التي شكلها علماء الاستعمار وطلابهم الصوماليون. يتناول المجلد الأول تاريخ الصومال القديم، وتأثير الإسلام، والاستعمار، والقومية الصومالية، مع تحليل العوامل التي أدت إلى انهيار الدولة الصومالية. بينما يركز المجلد الثاني على التاريخ الاجتماعي للصومال، مؤكدًا على دور شيوخ القبائل، والنساء في السياسة، والمجتمع المدني، وهوية الصومال المتطورة. معًا، تقدم هذان المجلدان تقييمًا شاملاً ونقديًا لتاريخ الصومال وبالذات الحديث منها، مع التركيز على أهمية إزالة الاستعمار من السرديات التاريخية وتقديم رواية أكثر شمولية لَماضِي البلاد. إنترجمة الكتاب إلى اللغة الصينية لا تجعل هذا العمل المهم في متناول القراء الناطقين بالصينية فحسب، بل تعزز أيضًا الفهم العالمي الأعمق لتاريخ الصومال .

واتمنى أن تساهم ترجمة هذا الكتاب إلى الصينية بشكل كبير في تعزيز التبادل الثقافي بين الصومال والصين، وتقدم للطلاب والعلماء الصينيين مصدرًا قيمًا، وهو عمل أكاديمي وجهد بحثي آمل أن يقدم رؤى فريدة في تاريخ الصومال من منظور مختلف غير تقليدي. من خلال جعل هذا الكتاب متاحًا باللغة الصينية، تفتح هذه الترجمة آفاقًا جديدة للفهم المتبادل والتعاون الأكاديمي بين البلدين. إنها تتيح للقراء الصينيين التفاعل مباشرة مع وجهات النظر والسرديات التاريخية للصومال، والتي غالبًا ما تكون مغفلة في الأبحاث العالمية السائدة المتعلقة بالدراسات الصومالية. هذه الترجمة لا تعزز الحوار الأكاديمي بين العلماء الصوماليين والصينيين فحسب، بل تعمق الروابط الثقافية، وتوسع آفاق التعاون المستقبلي بين البلدين .

وأخيرًا، أود أن أغتنم هذه الفرصة للتعبير عن تقديري العميق وامتناني الكبير للسفيرة الدكتوراة هدن عثمان والبروفيسور وي شو على مساهماتهما القيمة في ترجمة كتابي إلى اللغة الصينية. لقد لعبت السفيرة الصومالية هدن عثمان، بإصرارها ورؤيتها الثاقبة، دورًا حاسمًا في بدء هذا المشروع وضمان تقديمه بنجاح. وكان لفهمها العميق لكل من الثقافتين الصومالية والصينية، وكذلك التزامها بتعزيز التبادل الأكاديمي بين البلدين، دور أساسي في إنجاز هذه الترجمة.

`1

 

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.