نحن في بداية عام جديد من السنة الهجرية 1446، وهي تمثل مرحلة جديدة للأحياء، وتذكرة لماضينا بما يحمله من أفراح وأتراح، انتصارات وهزائم، تقدم وتأخر. تعكس هذه الهجرة ذكريات قرون مضت، بدأت منذ اليوم الأول الذي لقّن المعلّم جبريل عليه السلام الدرس الأول لتلميذه النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والرسل وخير البرية جمعاء. مفاجئة مذهلة غير مسبوقة في المقروء والمسموع من تاريخ البشرية.
كانت بداية تحمل في طياتها بذرة لأعمق تغيير في الحياة البشرية حسب معرفتنا المحدودة. فجاءت الآية الأولى لتكون البداية المباركة التي هزت كيان محمد عليه السلام: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }، فكان الجواب ” ما أنا بقارئ ” ولكنه في النهاية بإلهام من خالقه ردد القراءة وراء جبريل، فمن تلك اللحظة بدء الترحال للرسول عليه السلام من الوضع المألوف إلى حالة لم تعرف الهدوء ولا الراحة بعدها ابدا.
إنها ترجمة لقوله تعالى{ یَٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا ٢ نِّصۡفَهُۥۤ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِیلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَیۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا ٤ إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا }، إن كون “إقرأ” أول كلمة نزلت على رسول الله تحمل دلالة مؤكدًة على أن التغيرات الجذرية في الحياة البشرية أساسها القراءة والكتابة. وعندما تكون المعرفة مرتبطة بالله وبشرعه، تكون لصالح البشر دوماً، وبهذه الطريقة يتحقق التغيير الإيجابي الذي يوفر السعادة للبشرية وكل الكائنات على هذا الكوكب المخلوق لخدمتنا: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا }.
الهجرة بهذا المفهوم تمثل انتقالًا من عالم متعفن شوه معالم الرسائل السماوية السابقة، وابتعد عن منابر ها ، عالم خسر فيه البشر روحهم، فكرهم، وعقلهم، لقد صلت تفاهتهم إلى عبادة التمور من مزارعهم، ولكنهم يأكلونها عند الجوع، ويعبدون أصناما صنعوهم صنعوها بأيديهم من تراب الأرض، وبدءت رحلة شاقة إلى عالم جديد يتم فيه تصحيح ما أفسدته الأجيال المتعاقبة. في هذا العالم الجديد، تكون الاستقامة مدى الحياة هو المطلب الأساسي ومضمونة إذا اتبعت البشرية النهج الرباني المنزل على محمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
الهجرة ليست مجرد انتقال فيزيائي من مكان إلى آخر، بل هي رحلة معنوية وروحية تهدف إلى نقلة نوعية في الفكر والعقيدة والسلوك. إنها فرصة للتجديد والإصلاح والتطهر من شوائب الماضي، وحماية المستقبل من الانحرافات. إنها تذكير دائم بأن الحياة تتغير وأن علينا أن نكون جزءاً من هذا التغيير نحو الأفضل، مستلهمين من نور الوحي ومعاني الهجرة.
الهجرة تعني مغادرة العادات والتقاليد البالية التي لا تتفق مع المبادئ الإسلامية السمحة ولا ما يقتضيه العقل السليم، والانتقال إلى تبني قيم العدالة، والمساواة، والرحمة، والابتعاد عن الظلم والطغيان. هذه الهجرة الفكرية والروحية هي ما يمنحنا الأمل في مستقبل أفضل، حيث يمكننا بناء مجتمع متماسك متحاب ومزدهر يستمد قوته من تعاليم الإسلام، كما تمكن الصحابة والذي جاءوا من بعدهم، فأصبحوا إخوانا متحابين بعد أن كانوا أعداء ألدّاء يبيد بعضهم بعضا بدون أسباب منطقية. وحتى تحقق السعادة كما حقق من كان قبلنا يأمرنا الله التمسك بهذا المنهج الرباني بقوله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَٰنࣰا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ﴾
في بداية هذا العام الهجري الجديد، لنجعل من الهجرة تذكرة لنا جميعاً بضرورة التغيير نحو الأفضل، ولنسعى إلى تبني القيم الإسلامية الحقيقية التي تعزز من رفاهية الإنسان وسعادته، وتضمن له حياة كريمة ومستقبلا مشرقا. الهجرة بمعناها الشامل هي دعوة للتجديد والإصلاح المستمر، وهي الطريق الذي يجب أن نسلكه لتحقيق التقدم والازدهار.
المعنى اللغوي للهجرة
الهجرة لغةً هي لفظٌ مشتقٌ من الجذر الثلاثي (هَجَرَ)، والذي يعني ترك الشيء أو الإعراض عنه. ويمكن أن يشير هذا المصطلح إلى الرحيل عن مكانٍ ما أو التخلي عن شيءٍ ما. بشكل عام، تُعرَف الهجرة بأنها انتقال الأفراد من مكانٍ إلى آخر بغرض الاستقرار في المكان الجديد بشكلٍ دائم أو مؤقت.
واصطلاحًا، تعني الهجرة الانتقال من البلد الأم إلى بلدٍ آخر للاستقرار. وهي حركة تنقل الأفراد بشكلٍ فردي أو جماعي من وطنهم الأصلي إلى وطن جديد، بحثًا عن ظروفٍ أفضل للحياة.
تتعدد الأسباب التي تدفع الناس إلى الهجرة، وتشمل:
1- الحروب الأهلية والنزاعات الدولية: تُعد الحروب والنزاعات من أبرز الدوافع للهجرة، حيث يبحث الأفراد عن الأمان والاستقرار بعيدًا عن مناطق الصراع.
2- الأوضاع الاقتصادية السيئة: تدفع الأوضاع الاقتصادية المتردية الكثيرين إلى البحث عن فرص عمل وحياة أفضل في أماكن أخرى.
3- الظروف السياسية القمعية: يهاجر الناس أحيانًا هربًا من الأنظمة الدكتاتورية والسياسات القمعية التي تهدد حياتهم، حريتهم، وكرامتهم.
4- الظروف الاجتماعية غير العادلة: يلجأ البعض إلى الهجرة بسبب الظلم الاجتماعي والتهميش والإذلال في مجتمعهم الأصلي.
يسعى الأفراد الذين يختارون الهجرة إلى تحقيق أهداف متعددة، منها:
1- يسعى المهاجرون إلى تحسين مستوى حياتهم المعيشي والحصول على فرص أفضل لهم ولعائلاتهم. 2-يهدف المهاجرون للعيش في بيئة آمنة ومستقرة بعيدًا عن الحروب والنزاعات التي تعرقل مسيرتهم 3- يرغب المهاجرون في بناء مستقبل أكثر إزدهارا ، من خلال توفير فرص تعليمية لأنفسهم ولأبنائهم. 4- يخرج البعض من بلدته ووطنه إلى موطن الغربة ليجد فرصة للتعبير عن أفكاره ويمارس مبادئه بحرية. والهجرة، بمعناها اللغوي والاصطلاحي، تعكس رغبة الأفراد في البحث عن حياةٍ أفضل لهم. وعلى الرغم من تعدد أسباب الهجرة، فإن الهدف الأساسي يبقى تحقيق الاستقرار والأمان وتحسين ظروف الحياة.
الهجرة النبوية الشريفة حدثت بعد ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة. خلال تلك الفترة، تعرض المسلمون لشتى أنواع الاضطهاد والتعذيب على يد المشركين. رغم ذلك، لم تكن الهجرة إلى المدينة المنورة هي الأولى للمسلمين، إذ سبقتها هجرتان إلى الحبشة.
لقد انتشرت الدعوة في مكة سرا في المرحلة الأولى ثم أصبحت علانية، فمن بين المؤمنين ضعفاء المجتمع مثل بلال وصهيب، بجانب بعض سادات قريش مثل أبي بكر وعثمان وحمزة. رضي الله عنهم، فواجه الجميع قدرا من التعذيب والمضايقة، ولم يكن الرسول يستطيع الدفاع عنهم، لأنهم كان يلاقي الأمرين من المشركين، حتى ابوطالب وعشيرة الرسول بالحصار حتى كادوا يهلكون. وأذن الرسول أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة ليعبدوا الله ويأمنوا من التعذيب.
الهجرة الأولى إلى الحبشة: كان عدد المهاجرين: يتراوح بين 15 و17 شخصاً من الرجال والنساء، ولقد مكثوا في الحبشة حوالي أربعة أشهر فقط قبل أن يعودوا إلى مكة لأسباب غير واضحة، ولما علم المشركون بالكرم والضيافة التي لقيها المسلمون من ملك الحبشة، زادوا من تعذيبهم واضطهادهم عند عودتهم فلاقوا شدة غير معهودة مما اضطرهم إلى الهجرة الثانية بعد أن أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة، وكان فيها ملك عادل لا يُظلم عنده أحد.
كانت هذه الهجرة أصعب من الأولى، إذ حاول المشركون منع المسلمين من الخروج، مدركين خطورة العلاقة بين المسلمين والحبشة. ولقد بلغ عدد المهاجرين هذه المرة حوالي 120 إلى 123 شخصاً، بينهم الرجال والنساء والأطفال. وحدثت الهجرتان في السنة الخامسة من البعثة.
الهجرة وأثرها النفسي في نفوس بعض المشركين.
قصة عمر بن الخطاب:
عند لقائه بأم عبد الله ليلى بنت أبي حثمة، أبدى تعاطفه مع خروج المسلمين وقال: “صحبكم الله” حتى طمعت أم عبد الله في إسلامه لأنها قارنت بين مواقفه السابقة وشدته وبين هذا التعاطف فنقلت الخبر إلى زوجهاواستغرب قائلا لن يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب. كانت هذه الكلمات تدل على أن هناك من مشركي قريش من لم يكونوا راضين عن تعذيب المسلمين.
وقصة ابن دغنة مثيرة حين لقي أبا بكر خارج مكة وسأله عن وجهته، فأجاب أبو بكر بأنه يريد أن يعبد ربه في مكان آخر بعدما طُرد من مكة. ابن دغنة رد قائلاً: “فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج ولا يُخْرَج”.فقال إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانا لك جار وطلب منه العودة إلى مكة تحت حمايته.
الدروس المستفادة
1- الصمود والثبات: أظهر المسلمون الأوائل صموداً وثباتاً على مبادئهم رغم الأذى والاضطهاد. هذا الصمود كان له أثر كبير في تغيير قلوب بعض المشركين، بل وقاد بعضهم إلى الإسلام في نهاية المطاف. 2- القوة في الإيمان:الهجرة النبوية تعد مثالاً حياً على قوة الإيمان والتضحية من أجل العقيدة. كانت الدروس المستفادة منها تعزز من إيمان المسلمين بأهمية الثبات على الحق والسعي لتحقيق حياة كريمة 3- رحلة إيمانية روحية: الهجرة النبوية الشريفة لم تكن مجرد انتقال جسدي من مكان إلى آخر، بل كانت رحلة إيمانية وروحية تحمل في طياتها معاني الصمود والتضحية من أجل الدين والمبادئ. عبر هذه الهجرات، تعلم المسلمون الأوائل أن الثبات على الحق والإصرار على تحقيق العدالة يمكن أن يغير مجرى التاريخ ويقلب القلوب، حتى قلوب الأعداء، نحو الإيمان والحق.
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب
كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب (المدينة المنورة) حدثًا مفصليًا في تاريخ الإسلام، إذ جاءت بأمر من الله سبحانه وتعالى وهدفت إلى تأسيس دولة إسلامية متكاملة تمتلك كافة مقومات الدولة: الأرض، الشعب، السلطة، والدستور. في يثرب، ينقاد المسلمون ومن معهم من الأقليات الأخرى لدستور الإسلام وقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أهداف الهجرة
1- تأسيس دولة إسلامية: الهجرة كانت تهدف إلى تأسيس مجتمع إسلامي متكامل حيث يمكن للمسلمين أن يمارسوا شعائر دينهم بحرية ودون خوف من الاضطهاد.و نشر الدعوة والقيم والأخلاق الإسلامية 2- تطبيق دستور الإسلام: في يثرب، تمكن المسلمون من تطبيق دستور الإسلام بشكل كامل، تحت قيادة الرسول عليه السلام، والتزامهم بتعاليم الدين، وحدد دستور المدينة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين 3- توحيد طاقة المسلمين: تجميع أفراد المسلمين في مكان واحد وتوحيد صفوفهم لبناء أركان الدولة.
كانت استجابة أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم للهجرة سريعة، تاركين خلفهم منازلهم وتجارتهم وأموالهم، فمن الصحابة من أُجبروا على التنازل عن جميع ممتلكاتهم في مكة مقابل السماح لهم بالهجرة. فصهيب الرومي على سبيل المثال، تنازل عن أمواله للمشركين كي يسمحوا له بالهجرة. وعندما وصل إلى قباء، استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارة “ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى”.
كما أن بعض المهاجرين واجهوا تحديات أكبر، حيث فرق المشركون بين الأزواج، وبين الوالدين وأبنائهم، حدث ذلك مع أبي سلمة وأم سلمة رضي الله عنهما، حيث منع بن المغيرة أم سلمة من الهجرة مع زوجها ومنع بنو عبد الأسد ابنهم من الذهاب. كانت أم سلمة وابنها يبكيان يوميًا حتى أشفق بنو المغيرة عليها وسمحوا لها باللحاق بزوجها ومعها ابنها. فالمهاجرون حققوا ما سعوا إليه. يقول الله جل ثناؤه:. { لِلۡفُقَرَاءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ} إنها قمة العظمة والعزة.
تآزر المهاجرين والأنصار
لقد نال المهاحرون والأنصار بسبب تعاونهم التاريخي أعلى شهادة وتزكية يحصل عليها البشر من رب العالمين والتي بينت أفضالهم وما قاموا به ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرةً لله ورسوله. يقول الله جل ثناؤه: {وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتࣲ تَجۡرِی تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ}.
وقوله تعالى:{لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِیِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ فِی سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقࣲ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ}. وقوله تعالى:{إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَٰۤئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَٰقࣱۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ}.
فكما رأينا فإن الأنصار شاركوا الفضل مع المهاجرين في كثير من الآيات القرآنية وتأتي درجتهم بعد درجة المهاجرين، وأحيانا يذكرالله فضائل خاصة للأنصار بسبب مواقفهم المشرفة وتحملهم عبء إخوانهم المهاجرين. يقول الله جل ثناؤه: {وَٱلَّذِینَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِیمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ یُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَیۡهِمۡ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمۡ حَاجَةࣰ مِّمَّاۤ أُوتُوا۟ وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَٰۤئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ}. يقول سيد قطب في هذه الآية: ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين !
من مبررات مخاوف قريش من الهجرة
1- تدرك قريش جيدًا أن خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى يثرب بعد أن نجى من من محاولة قتله يمثل تهديدًا كبيرًا لمركزهم ونفوذهم وسمعتهم في الوسط العربي.
2- أن تضحية المهاجرين بكل ما يملكون من عقارات وتجارة ومنازل وغير ذلك، بل ترك زوجاتهم وأبنائهم في بعض الحالات، تخفي في طياتها أسرارًا عظيمة، وهولاء من بني جلدتهم وليسوا من الأغراب، فهم يتخيلون كيفية تفكيرهم وقدراتهم الذاتية، وحتما يتوقعون ردة فعلهم في المستقبل.
3- من دواعي خوفهم وقوف أهل يثرب بجانب الرسول عليه السلام بعد أن خذلوه وأجبروه على الخروج من مكة المكرمة قائلا عليه السلام [علمت أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت] لأن أهل هم من أنداد قريش ومعروفون بالشجاعة والثقة بالنفس.
4- من مخاوفهم التحالف بين الأنصار وبين الرسول عليه السلام. وقد قال الأنصار في بيعة العقبة الثانية: يا رسول الله خذ لربك ولنفسك ما شئت، فبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن يمنعوه إذا قدم إليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم ولهم الجنة فبايعوه صلى الله عليه وسلم. إن الهجرة إلى يثرب لم تكن هجرة للبحث عن الأمن للرسول وأصحابه، بل كانت بجانب حرية العبادة تكوين حلف دفاعي قوي وأرض خالصة للمسلمين، وهو أمر يهدد مركزية قريش، ويشكل عدوا ذا بأس تعهد بالدفاع عن الرسول وصحبه. وربما يمثل في المستقبل تهديدا لكيانهم ومشتقبلهم وهو ما حدث.
5- ما زالت قريش تتذكر آثار الهجرة إلى الحبشة قبل ذلك وما ترتب عليها من علاقات وثيقة بين المسلمين وبين الحبشة وإسلام النجاشي، الأمر قد دمر الروابط الوثيقة بين قريش وبين الحبشة،
وانطلاقا من تلك المخاوف فقد قرروا قتل الرسول عليه السلام والتخلص من تلك التهديدات كما تدل عليه هذه الآية: {وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ أَوۡ یَقۡتُلُوكَ أَوۡ یُخۡرِجُوكَۚ وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَٰكِرِین} ولقد خططوا لقتله ولكن الله أبطل كيدهم: بقوله تعالى:{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ سَدࣰّا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدࣰّا فَأَغۡشَیۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ}، وبذلت قريش كل جهد ممكن لقتله حتى بعد ما علموا أن الرسول عليه السلام قد خرج ولكنهم لم يحققوا ذلك.
الهجرة النبوية الشريفة لم تكن مجرد انتقال جسدي من مكان إلى آخر، بل كانت خطوة استراتيجية نحو تأسيس دولة إسلامية قوية تمتلك كافة مقومات الدولة. التضحيات الكبيرة التي قدمها الصحابة والمهاجرون كانت دليلًا على إيمانهم العميق وصمودهم في وجه الاضطهاد، مما أثمر في النهاية عن تأسيس مجتمع إسلامي قوي ومستقر تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم
تعليقات الفيسبوك