بقلم/ د. عبد الرحمن عبد الله (باديو)  

اجتمع الشعب الصومالي في مدينة عرتا في جيبوتي عام 2000 من أجل إعادة بناء الدولة الصومالية المنهارة عام 1991. وتمّ انعقاد  مؤتمر السلام والمصالحة برعاية رئيس جمهورية جيبوتي، السيد  إسماعيل عمر جيلي وذلك بعد فشل العديد من المؤتمرات  الدولية  منذ الانهيار. ومثّل المؤتمر، نقلة نوعية في التعامل مع الوضع  السياسي القائم في البلاد والمتمثل باستمرار الحرب الأهلية المدمّرة وانعدام الدولة في الصومال وفشل الجهود السياسية لاحتواء الأوضاع. وكان المؤتمر مدفوعا من قبل المجتمع المدني بدلاً من أمراء الحرب، وأنه تميز انفتاحه على مشاركة جميع الشرائح وكافة أطياف المجتمع في الصومال ورفض هيمنة هؤلاء الأمراء وخطفهم على المصير العام  للبلاد.  والجدير بالذكر، أن  المؤتمر اعتمد على  الحقيقة المتمثلة على أن الصوماليون مسلمون منذ الأمد وأن الوحدة الأساسية في العمل السياسي العام هي العشيرة، وهما الركيزتان الأساسيتان للصومالية اللتان تمّ قمعهما خلال النظام العسكري (1969-1991) وبالتالي تأسس الميثاق الوطني الانتقالي عام 2000 على هذين الركيزتين.

وهكذا، تبني المؤتمر صيغة 4.5 المبتكرة لتقاسم السلطة  السياسية بين العشائر، وكانت هذه الصيغة مخالفة على النهج المتبع على بناء الدولة الحديثة القائمة على أساس المواطنة، ووافق المؤتمر كذلك اعتبار الشريعة الإسلامية مرجعا نهائيا في المواد القانونية لحكم البلاد. ومن اللافت  للنظر، أنه لم يزعم أحد قط أن صيغىة تقاسم السلطة بين العشائر المحلية كان نموذجًا مثاليًا لبناء الدولة الصومالية الحديثة. وكان اعتمادها من الأول مرحليا و جزءًا من ترتيبات المصالحة المؤقتة التي قبلها ممثلو وزعماء المكونات الأساسية للمجتمع. وانتقد العديد من  الكتاب والباحثين على تلك الصيغة العشائرية، ولكننا لم نر منهم  من قام بتقديم صيغة بديلة أو أفضل  خلال العقدين الماضيين . 

وفي السنوات الـ 22 الماضية ، شهد بناء الدولة الصومالية مراحل مضطربة وصراعات دورية  وتغييرات في النظام بسبب عوامل عديدة. وتشمل هذه العوامل تأثير الحادي عشر من سبتمبر في  العلاقة  السياسية بين  الولايات المتحدة والدول الإسلامية، ومؤتمر إمبجاتي في كينيا (2004) الذي انبثق عنه النظام الفيدرالي الحالي، وظهوراتحاد المحاكم الإسلامية (2006) وما نتخ عنه من تفريخات تنظيمية مختلفة، والتدخل العسكري الإثيوبي (2008-2006)، وتربع القيادة الإسلاموية من حكم البلاد منذ (2009)، ودخول بعثة الاتحاد الأفريقي (أميصوم) كفاعل       في العملية السياسية الصومالية، وأخيرا نمو قدرة حركة الشباب وتوسيع سلطة حكمهم منذ  2010م .

تلقت الحكومة الصومالية اعترافًا دوليًا في عام 2013 بعد 22 عامًا من انهيارها في عام 1991. ومنذ ذلك الحين ، اتخذت عملية بناء الدولة زخمًا جديدًا في عهد الرئيس حسن شيخ من خلال إنشاء الولايات الفيدرالية الجديدة  في جنوب ووسط الصومال. واستمرت  اعتماد صيغة تقاسم السلطة القائمة على 4.5 في الولاية الأولى للرئيس حسن شيخ (2012-2017) وفي عهد الرئيس محمد فرماجو (2017-2022) مع تعديلات طفيفة  لم تغير اتجاه المسار. ومع ذلك ، فقد وصل هذا النظام إلى الطريق المسدود، وفقد أسباب استمراريته مع التسويق  الشديد له في أهمية التعديل أوحتى التسويق الواسع النطاق لعملية الاختيار/الانتخابات في عام 2021- 2022م عن طريقه. وبسببه، اغتصب رؤساء الولايات الفيدرالية حق زعماء العشائر في اختيار أعضاء ممثليهم البرلمانيين. وكادت هذه العملية من حين لآخر أن تدفع الصومال إلى هاوية الصراع وعودة شبح الحرب الأهلية المؤلم .

وفي الوقت الحاضر، يقف الصومال عند مفترق طرق في الاختيار بين الاستمرار في هذ النموذج العقيم لتقاسم السلطة بين العشائر أوالشروع في مسار جديد لبناء الدولة الوطنية. وإن إعادة انتاج صيغة تقاسم السلطة السابق للعشيرة لن يؤدي بالتأكيد إلى دولة صومالية فاعلة ومستقرة على المدى المنظور. وأثبتت هذه العملية خللها  الوظيفي وميلها إلى الصراع والتوتر السياسي الدائم أكثر من التوافق  بين الشركاء السياسين في البلاد. وعلاوة على ذلك، فإن التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها الدولة من قبل حركة الشباب، والدستور المؤقت غير المكتمل الذي يتطلب إجماعًا بين  الشركاء الأساسيين في العمل السياسي المشترك يمثلان وصفة لعدم الاستقرار والصراعات القائمة في البلاد .

والصيغة البديلة الوحيدة لتقاسم السلطة بين العشائر هي الانتخابات المباشرة العامة (شخص واحد صوت واحد). ومع ذلك ، فإن هذا النموذج يتطلب الاستقرار، ويحتاج إلى نظام سياسي فاعل وقادة سياسية جادة تحظى بدعم الجمهور. والتحدي الأساسي لإجراء الانتخابات هو اختلاف شروط الانتخابات والإطار الزمني القصير لتحضيرها في الولايات الفيدرالية. ولا يمكن إجراء الانتخابات على مستوى البلاد دون البدء بإجراءها في الولايات الفيدرالية أولا .

ويجب أن يأخذ النظام السياسي الجديد في الاعتبار الإطار الزمني لاستقرار الولايات الفيدرالية وأهمية إتمام الدستور المؤقت، والاسراع في تحرير المناطق الخاصعة لحكم الشباب، وفتح الباب لتأسيس الأحزاب السياسية واعتماد قانون الانتخابات، ودفع إجراء الانتخابات وكذلك إنشاء إدارات فاعلة في  المناطق والمديريات المختلفة في الولايات باعتبارأنها ستكون مسرح العمليات في الانتخابات المقبلة. وإن  التجاوزمن عملية الاختيار وتقاسم السلطة بين العشائر يتطلب من النخب السياسية الصومالية طرح صيغة بديلة أفضل، وان السعي إلى تغيير الرؤساء برؤساء وبرلمانيين بآخرين لايؤدي إلى تغيير أفضل، بينما يظل نظام تقاسم السلطة على أساس العشيرة قائما ومستمرا.

ولقد حان الوقت للإدراك أن النظام الذي تم إنشاؤه خلال مؤتمر عرتا السياسي في 2000 قد وصل إلى نهايته، ولا يمكن أن يكون بعد الآن فصاعدا مرجعا سياسيا يمكن الرجوع إليه. ويجب  العمل على اعتماد نظام انتخابي جديد يعمل على تطويع عملية بناء الدولة لصالح المجتمع ومستقبل البلاد. والأسئلة التي تطلب إجابات من المثقفين الصوماليين المهتمين في الشأن الصومالي هي كيف يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة، وماهي  الطرق الآمنة لإقامة دولة صومالية مستقرة سياسياً واقتصادياً، ومتماسكة اجتماعياً، وقد يكون البداية في ذلك اعتبار مخرجات مؤتمر عرتا من الماضي الذي لا يمكن  الرجوع إليه.

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.