الملخص.
واجهت الدولة الصومالية تحديات هائلة أثقلت قدرتها كدولة في طور التكوين. لقد أعاقت التحديات المتعددة الأوجه، بما في ذلك القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، جهود بناء الدولة وشكلت حاجزًا قويًا أمام تقدم الدولة ونموها. أدى انقسام النخبة السياسية الصومالية بشكل أفقي (قبلي) وعجزها عن إدارة التنافس السياسي وإظهار سلوكيات تتماشى مع قيم الدولة الحديثة إلى فقدان الأولويات في القضايا الوطنية وانتشار الفساد في جميع أجهزة الدولة، مما شل حركة الدولة بأكملها. تجلى القبلية السياسية بشكلها الأوضح في معضلة التوفيق بين متطلبات الأحزاب السياسية والتمثيل القبلي، وهي ثقافة لا تزال سائدة حتى اليوم. مثل الخطاب الجوفؤ الذي فشل في إيجاد وسيلة للتوفيق بين الشعارات الوطنية ومتطلبات القبلية معضلة كبيرة. برز هذا التناقض خلال وبعد الانتخابات؛ حيث استغل السياسيون الخطاب الوطني خلال الحملات الانتخابية، بينما طفت القبلية على السطح بعد انتهاء الانتخابات، لا سيما في أوقات تقاسم السلطة والموارد. كما أن النزاعات الإقليمية شكلت تحديًا للمؤسسات الناشئة، حيث انخرطت البلاد في صراعات مسلحة تجاوزت قدرتها العسكرية والاقتصادية. كان أحد العوامل التي ساهمت في النزاعات الإقليمية هو الحرب الباردة وصراع القوى العظمى للنفوذ في المنطقة.
الكلمات المفتاحية: بناء الدولة، الأجهزة المتعثرة، الحرب الباردة، الدول النامية، الخطاب، السياسة، القبلية، اجتماعي-اقتصادي.
المقدمة.
كان ظهور الدولة الصومالية مرتبطًا بظروف خاصة وعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، مما أنتج نوعًا خاصًا من الدولة التي لا تتمتع بأرض كاملة وشعب منقسم، وليس لها حدود دولية معترف بها. بعد ثلاثين عامًا من الاستقلال ونظامين متعاقبين (مدني 1960-1969) وعسكري (1969-1991)، انهارت الدولة الصومالية بالكامل، مما أثار جدلًا واسعًا بين المثقفين الصوماليين وغير الصوماليين حول أسباب الانهيار. وعلى الرغم من تنوع الآراء والأفكار حول أسباب السقوط المدوي للدولة الصومالية، تجاهل الكثير منهم أو لم يذكروا على الأقل الخلل البنيوي في الدولة الصومالية وتأسيسها، الذي لم ينمو ويتطور بشكل طبيعي، وطبيعة القيادة الصومالية التي تولت السلطة بعد رحيل الاستعمار. المؤسسات التي تركها الاستعمار وسلمها للصوماليين لم تتخذ الاتجاه التطوري، بل سقطت في التراجع والركود.
في حين أن الغرب أسس ملامح الدولة القومية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأت الدول الإفريقية بتأسيس الدولة فقط بعد الاستقلال، مما ساهم في تأسيس مشكلات في بناء وتشكيل الدولة. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من تطور وظائف الدولة في العالم، حيث انتقلت من الدولة الحارسة للأمن والاستقرار إلى الدولة الخادمة التي توفر الخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية للمجتمع، فإن الدولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا، بما في ذلك الدولة الصومالية، لم تعد حارسة ولا خادمة للمجتمع.
وسط العديد من التحديات، ومنها: الميلاد غير الطبيعي والتعرض للتوترات الدولية من الغرب إلى الشرق، وانشغال القيادة الصومالية بقضايا ليس لديها القدرة على حلها (الصومال الكبرى)، والصعوبات التي واجهتها الدولة الناشئة في تحقيق التكامل الوطني بين المنطقتين اللتين شكلتا الدولة الصومالية (الشمال والجنوب)، ونقص الموارد الاقتصادية لتغطية احتياجاتها، وإحاطتها بدول معادية (إثيوبيا، فرنسا، وبريطانيا) أثناء الاستقلال، اختارت القيادة الصومالية الصراع مع القوى العظمى.
تحقيق وحدة الصومال الكبرى كان حلمًا مشروعًا للقادة والشعب الصومالي، ولكنه كان في الوقت نفسه حلمًا بعيد المنال بسبب القواعد والأنظمة المحيطة به، ولم يرتبط بمشاريع مدروسة أو تخطيط طويل الأمد، بل كان يحكمه الحماس وسوء التقدير. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الطموح الصومالي لاستعادة الأراضي المفقودة في دفع الدولة نحو الوقوع في فخ الحرب الباردة، مما جعلها واحدة من أكبر مسارحها الدموية.
نتيجة لذلك، كان لهذا الوضع تداعيات سلبية على الدولة الصومالية على المستويين الداخلي والإقليمي، وظهرت عجز القيادة السياسية الصومالية عن بناء دولة حقيقية. في ظل الفشل في مواجهة هذه التحديات، اندلعت الصراعات القبلية وتطورت لاحقًا جبهات مسلحة مدعومة من الخارج، وتدهور الأداء الاقتصادي، وافتقر الاستقرار السياسي، وانتشر الفساد، وتراكمت المشكلات، مما أجبر الدولة الصومالية على الوقوع في مزيد من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كان سقوط الدولة الصومالية في الهاوية التي وقعت فيها بداية الاعوجاج الذي تزامن مع الاستقلال، حيث تتأثر الدولة في بنائها بالمجتمع الذي تولد منه، وتعبر أيضًا عن مستوى النخب وسلوك المواطن. تأثرت الدولة الصومالية في بنائها بإرثين، أحدهما هو المجتمع الرعوي القبلي الصومالي وعواقب الدولة الاستعمارية. في النهاية، انهار السقف على الجميع، ولا يزال الشعب الصومالي، خلال ثلاثين عامًا من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار، يكافح لاستعادة دولته على أسس سليمة قادرة على مواجهة التغيرات، وإقامة عقد اجتماعي للأمة ودساتير تحكم الدولة الجديدة.
على هذا الأساس، يهدف الباحث من خلال هذه الورقة إلى تتبع التحديات التي واجهت عملية بناء الدولة الصومالية.
“عام 1960 هو عام الاستغلال، وهو أيضًا عام البداية الصفرية، العام الذي يجب أن يبدأ فيه كل شيء من جديد، حيث يجب أن يُنجز كل شيء”، يقول الصحفي الإيطالي الذي رافق يوم الاستغلال.
هل فهمت النخبة السياسية الصومالية ما فهمه الصحفي الإيطالي؟
تحديات بناء الدولة الصومالية.
هذا البحث جزء من رسالة ماجستير قدمها الباحث لنيل درجة الماجستير في جامعة مقديشو، وحصلت على الدرجة الأولى بامتياز بعنوان “الدولة الصومالية – عوامل البناء والانهيار”. يتناول هذا الفصل التحديات التي واجهت عملية بناء الدولة الصومالية خلال العقود الثلاثة، وإدارة الحكم، وعبء الدولة الجديدة والهشة التي لم يكن عودها قويًا. تُقسم هذه التحديات إلى تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتحديات داخلية وخارجية، بعضها ظهر في البحث عن الدولة نفسها أو ولد مع الدولة وله جذور في الحقبة الاستعمارية التي استمرت لما يقارب القرن، والبعض الآخر نشأ بعد تأسيس الدولة وكان مرتبطًا بظروف إدارة شؤون الدولة وتعامل الدولة الصومالية مع الأطراف الدولية.
يُقسم الفصل إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
يتناول التحديات السياسية، التي بدورها تنقسم إلى تحديات سياسية داخلية نشأت من ممارسات النخبة الحاكمة للسياسة الداخلية وتفاعلها مع المكون الداخلي، الذي ينبع من تفاعل النخبة فيما بينها وبين الشعب الصومالي، وتحديات خارجية نشأت في التفاعل السياسي بين الدولة الصومالية والمجتمع الدولي.
تشمل هذه التحديات الداخلية ما يتعلق بإدارة الدولة، وانقسامات النخبة السياسية، وفشلها في إدارة التنافس السياسي بينها بطريقة سلمية وعلى أسس سليمة، وعدم القدرة على ترتيب أولويات القضايا الوطنية وإصلاح الجهاز الإداري للدولة، والقبلية السياسية. أما التحديات الخارجية، فأهمها الصراع الإقليمي مع الدول المجاورة حول الأراضي المفقودة، والانحياز في الحرب الباردة، وسوء تقدير وفهم السياسة الدولية.
القسم الثاني:
يتناول التحديات الاقتصادية، التي بدورها ظهرت مع ظهور الدولة، حيث كان أبرز حديث منذ نشوء فكرة استقلال الصومال هو كيفية حل المعضلة الاقتصادية. وكان أبرز سؤال في تلك الفترة: هل توجد إمكانية لتوفير موارد مالية كافية ودائمة للدولة الصومالية في حالة الاستقلال؟
تشمل هذه التحديات جميع المجالات الاقتصادية، بما في ذلك تطوير وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، والعجز الدائم في الميزانية العامة، وعدم قدرة الدولة على دفع الرواتب، والعجز في الميزان التجاري، وتنويع مصادر الاقتصاد، والاعتماد على المساعدات الخارجية. بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية الدورية التي كانت تدمر الاقتصاد الصومالي الهش، بما في ذلك الجفاف المتكرر الذي تسبب في نفوق الحيوانات وتدمير المحصول الزراعي، ومن ثم المجاعات التي ضربت غالبية سكان الصومال من البدو الذين يعتمدون على الرعي في البلاد، والفيضانات في مواسم الأمطار.
الموضوع الثالث والأخير:
يستعرض التحديات الاجتماعية التي واجهها المجتمع الصومالي بعد حصوله على الاستقلال وتأسيس الدولة. ومن بين هذه التحديات التي عانى منها الشعب الصومالي وأثرت على وحدته وبناء دولته: الصراع القبلي، مشكلات الهوية، تحدي التكامل الوطني، والموجات الكبيرة من الهجرة من الريف إلى العاصمة والمدن الرئيسية. تشمل هذه التحديات مشكلات تتعلق بعلاقة المجتمع بالدولة، وأخرى تتعلق بالعلاقات البينية داخل المجتمع الصومالي، وثالثة تتعلق بعلاقة المجتمع الصومالي مع البيئة الإقليمية العربية والإفريقية.
معًا، أعاقت هذه التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بناء المجتمع الصومالي، وبناء الدولة، وتطوير علاقة المجتمع بالدولة نفسها، وعلاقة الدولة والمجتمع الصومالي بالبيئة الإقليمية والدولية. فشلت النخبة الحاكمة في فهم هذه التحديات وطبيعة الدولة والمجتمع الصومالي، وبالتالي في الحد من تأثيرات هذه التحديات على المسيرة القصيرة للدولة، التي لم تتمكن من تجاوز عقدها الثالث منذ أن تولى الصوماليون زمام أمور دولتهم في عام 1960 وحتى بداية عام 1991
الموضوع الأول – التحديات السياسية:
تُعد التحديات السياسية التي واجهتها الدولة الصومالية خلال عقودها الثلاثة، وعجز القيادة الصومالية عن التغلب عليها، من أكبر العوامل التي أدت إلى انهيارها. تُقسم هذه التحديات السياسية إلى تحديات داخلية وخارجية.
تشمل التحديات الداخلية:
- تحدي إدارة الدولة، المتمثل في انقسام النخبة السياسية وفشلها في إدارة التنافس السياسي فيما بينها بطرق سلمية وعلى أسس سليمة.
- الفشل في وضع ترتيب صحيح لأولويات القضايا الوطنية
- الفشل في إصلاح الجهاز الإداري للدولة
- القبلية السياسية
أما بالنسبة للتحديات الخارجية، فأهمها:
- الصراع الإقليمي مع الدول المجاورة حول الأراضي المفقودة
- التورط في الحرب الباردة
- سوء تقدير وفهم السياسة الدولية
التحديات الداخلية
من بين التحديات والمشكلات المرتبطة بإدارة الدولة الصومالية، لا سيما خلال فترة الحكم المدني (1960-1969)، ما يلي:
(أ) انقسام النخبة السياسية الصومالية.
نشأ هذا الانقسام من ظهور الحركة الوطنية الصومالية الحديثة في أوائل الأربعينيات، وتعمقت جذوره خلال فترة الوصاية الدولية عندما كانت البلاد تستعد للاستقلال. كانت القيادة التقليدية للشعب الصومالي في فترة ما قبل الاستعمار بيد شيوخ القبائل والعلماء الشرعيين. ولكن بعد ما يقارب القرن من الاستعمار، ظهرت نخبة حديثة نتيجة للتعليم الحديث الذي جلبه الاستعمار، وفرص العمل في الأجهزة الإدارية والعسكرية للسلطات الاستعمارية. بالإضافة إلى خريجي التعليم الحديث الذي أسسته الجمعيات الخيرية المصرية والمدارس التي تم إنشاؤها منذ أوائل الخمسينيات، ظهرت نخبة جديدة تولت القيادة في الحركة الوطنية الصومالية والدولة لاحقًا. وظهرت أربعة أنواع أخرى من النخب:
- النخب التقليدية المكونة من شيوخ القبائل والعلماء الشرعيين التقليديين
- النخب الحديثة المكونة من غير الإسلاميين المتأثرين بالغرب
- الإسلاميين
التوجه الصومالي نحو الاتحاد السوفيتي وإرسال الآلاف من العسكريين والمدنيين في بعثات تعليمية إليه أضاف بعدًا راديكاليًا في وسط النخبة الحديثة المتأثرة بالثقافة الغربية. كانت مصالح “الخبة” مرتبطة بإثارة النزاعات القبلية لمعاقبة أو إضعاف أو مناورة الخصم. وكان استنهاض القبيلة واستغلال مشاعرها بشكل فعال أحد أدوات النخبة السياسية الصومالية. وكان افتعال النزاعات بين الدولة والقبيلة أحيانًا، وبين الإسلام والدولة في أحيان أخرى، أحد أدوات النخبة السياسية للسيطرة على الحكم.
كانت تفاعلات الإسلام والقبائل والدولة من أكثر القضايا التي أعاقت وحدة القيادة الصومالية، وما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم.
(ب) إدارة التنافس السياسي بين النخب
بالإضافة إلى الانقسام الثقافي الذي أعاق نمو توجه قومي موحد للنخب في إدارة الدولة، فشلت النخبة السياسية في إدارة التنافس السياسي بينها. كانت الأحزاب السياسية تستقطب الشارع خلال الانتخابات والقضايا الوطنية. وفي العديد من مواقفها السياسية، تجاوزت النخبة الخطوط الحمراء واستمرت في دخول المعارك الانتخابية وكأنها معركة حياة أو موت. كما ظهرت سلوكيات عدم احترام الدستور والقوانين وآليات اللعبة الديمقراطية التي كانت جديدة على الصوماليين، خاصة بعد أن أصبحت مسؤولية إدارة الدولة في أيديهم دون وجود إيطاليا أو بريطانيا أو الأمم المتحدة. لم يكن مفاجئًا أن تحدث مثل هذه السلوكيات في بلد جديد على الحريات وعانى كثيرًا من العبودية والطغيان تحت أنظمة استعمارية مختلفة، بما في ذلك النظام الفاشي الإيطالي.
كان الرئيس الصومالي الأسبق آدم عبدالله عثمان من الشخصيات البارزة التي اشتهرت بالحكمة وتوجيه النخبة السياسية والجماهير، وقد قال في هذا الصدد:
“تعزيز ديمقراطيتنا في بلادنا يعني أن يحترم الجميع النظام والقوانين التي وضعناها لأنفسنا، وأن نحب بعضنا البعض، وأن نحل خلافاتنا بطريقة سلمية وودية.(3)“
أحد أبرز الأمثلة التي ظهرت فيها هذه السلوكيات كان في الاستفتاء على الدستور الذي جرى عام 1961، حيث سعى بعض الشخصيات البارزة إلى إقناع الناخبين بالتصويت ضد الدستور، ليس اعتراضًا على أحكامه، وإنما رفضًا للحكومة التي تشكلت وأشرفت على عملية إعداد الدستور، على أمل أن يؤدي رفض الدستور إلى الإطاحة بالحكومة وتشكيل حكومة جديدة.
كينمانكهاوس، مشروع “صفقات النخب والمساومات السياسية”، دراسة حالة الصومال، الصفحة 11
عبد الرحمن عبد الله (بادييو)، مرجع سابق، الصفحة 82
عبدي إسماعيل سمتر، “أول ديمقراطيين في إفريقيا”، مرجع سابق، الصفحة 96
كما أظهرت النخبة سلوكيات غير اعتيادية، من بينها عدم الرضا عن سياسات ومبادئ الأحزاب التي ينتمون إليها، وتحول ولاءات أعضاء البرلمان بدوافع قبلية أو طمعًا في الحصول على منصب سياسي من الحكومة، (4) واستخدام الانتماء الحزبي كوسيلة للفوز والحصول على المقعد ثم الانضمام إلى حزب الأغلبية بعد ضمان المقعد، بالإضافة إلى اختلاف تصويت النائب نفسه في قضية واحدة عند تغيير نوع التصويت من علني إلى سري أو العكس.(5)
من بين الصعوبات والتحديات المرتبطة بإدارة الدولة الصومالية، والتي ظهرت منذ بداية نشوء الدولة الصومالية، هي عرقلة منح الثقة للحكومة في البرلمان، وذلك بسبب رغبة المجموعات البرلمانية المختلفة في أن تعكس الحكومة – رغم قلة الحقائب الوزارية – الطيف السياسي للأحزاب، بما في ذلك أحزاب المعارضة، وسعي الشخصيات البارزة المنتمية للأحزاب المختلفة لتولي مناصب في الحكومة، واعتماد حق منح الثقة للحكومة في البرلمان كوسيلة للضغط على الرئيس وحزب الأغلبية للحصول على مناصب فيها. وقد واجهت هذه المشكلة كل من حكومتي عبد الرشيد الأولى والثانية وحكومتي عبد الرزاق الأولى والثانية.(6)
لم تقتصر معارضة تشكيل الحكومات المتعاقبة خلال فترة الحكم المدني وانعدام الثقة بها على أحزاب المعارضة فحسب، بل إن الحزب الحاكم نفسه واجه صعوبة في إقناع أعضائه بالتصويت لصالح الحكومة التي شكلها الحزب ذاته، إلا إذا ضمن العضو منصبه في الحكومة مسبقًا، ولم يكن لأعضاء الأحزاب قيمة حقيقية أو ولاء حقيقي للحزب الذي ينتمون إليه بقدر ما كانوا مهتمين بالمناصب التي يشغلونها في الحكومة.
4() Mukhtar, Mohammed Haji: the Emergence and Role of Political Parties in the Inter-River Region of Somalia, Op. Cit. P. 84.
5() Abdi Ismail Samater, Africa’s First democrats, Op. Cit. P. 171.
6 Hamdi Al-Sayed Salem, op. Cit., P.
لا تزال هذه المشكلة تؤثر على مسار الدولة الصومالية. فهل تأخذ القبائل حصصها من خلال الحصص القبلية أم من خلال الأحزاب السياسية؟ وكيف يمكن التوفيق بينهما؟
ج) التكامل الإداري بين النظامين البريطاني والإيطال:
يعد هذا أحد أكبر التحديات التي واجهتها الدولة الصومالية بعد استقلال الأقاليم الشمالية البريطانية في 26 يونيو 1960، والأقاليم الجنوبية الإيطالية في 1 يوليو 1960. كان دمج الإقليمين بعد أكثر من 70 عامًا من العيش تحت إدارتين استعماريتين مختلفتين أمرًا صعبًا للغاية. وقد كان هذا الموضوع قضية شائكة شغلت النخبة السياسية في السنوات الأولى للجمهورية، حيث تطلبت هذه القضية توحيد القوانين والتشريعات واللوائح المختلفة، ودمج مؤسسات الدولة على مختلف مستوياتها في الدستور الجديد الذي أُعد في السنة الأولى بعد الاستقلال، وترجمة عملية التكامل إلى واقع ملموس بعد ذلك.
تمثلت أكبر التحديات في طول الفترة الاستعمارية التي عاشها الإقليمان تحت نظامين مختلفين، بما في ذلك الاختلاف في الثقافة، ولغة الإدارة، والتعليم، والمؤسسات، والقوانين، وحتى في تفكير وتوجهات النخب السياسية، حيث لم يكن لدى الإقليم الشمالي فترة كافية للاستعداد للاستقلال والوحدة مقارنة بما حدث في الجنوب. (7) كما أن نقص القدرات المالية والخبرات الفنية للدولة الناشئة، وضعف البنية التحتية للنقل والاتصالات التي تربط مركز الدولة في العاصمة بالمحافظات النائية، بما في ذلك عاصمة الإقليم الشمالي التي تبعد حوالي ألف وخمسمائة كيلومتر عن المركز، أبطأ من وتيرة التكامل وعاق عملية التفاعل مع الدولة الجديدة، بالإضافة إلى المركزية الإدارية التي اعتمدتها الدولة الجديدة، مما جعل المواطنين يشعرون بظل الدولة – خاصة في المحافظات الشمالية النائية – باهتًا.
كانت قضية التكامل بين الإقليمين القضية الأهم بعد الاستقلال، وكانت بمثابة قنبلة موقوتة تركها الاستعمار بعد قضية الحدود المتنازع عليها والأراضي المفقودة. وقد شكلت الأمم المتحدة هيئة دولية برئاسة الخبير الأممي باولو كونتيني في عام 1960 لإعداد عملية التكامل التدريجي والتوفيق بين التباينات التي تعيق الوحدة8، لكنها لم تنجح في عملها.
7() At the London Conference on March 2-12, 1960, it was announced that the independence of northern Somalia would be June 26, 1960, two months before independence.
(د) ترتيب الأولويات الوطنية بشكل مناسب
فشلت النخبة السياسية الصومالية بشكل عام – سواء في العهد المدني أو العسكري – في فهم تسلسل أولويات القضايا الوطنية الملحة التي كانت تنتظر الحكومة الناشئة، والتي كانت مثقلة بالتحديات الجسيمة التي وُلدت معها، لتكون حكومة فعالة وقادرة على البقاء، ولتحقيق أبسط احتياجات المواطنين الصوماليين الذين كانت توقعاتهم من الدولة مرتفعة. إن القيادة الناجحة للدول هي التي تحدد الأولويات الصحيحة(9) للقضايا الوطنية.
ومن بين تلك القضايا الملحة لبناء الدولة الصومالية على المستوى الداخلي كانت استكمال بناء مؤسسات الدولة، توحيد الشعب الصومالي، استكمال التكامل الإداري والثقافي والسياسي بين الإقليمين الشمالي والجنوبي، تحقيق التنمية الاقتصادية، توفير فرص العمل، تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، وتطوير البنية التحتية للبلاد، حيث إن مساحة الدولة كبيرة، والكثافة السكانية منخفضة، والطرق غير موجودة. كانت الدولة تجد صعوبة في الوصول إلى المحافظات، وكان السفر من هرجيسا، عاصمة الإقليم الشمالي، إلى مقديشو يستغرق أسبوعًا.
بدلاً من التركيز على عملية بناء دولة قادرة على القيام بوظيفتها الأساسية في توفير الأمن والخدمات وإنشاء البنية التحتية، جعلت النخبة السياسية من الأولويات خوض الصراعات مع الدول المجاورة لاستعادة الأراضي المفقودة، والسعي للحصول على المساعدات الخارجية، خاصة الأسلحة من الشرق والغرب، وبناء الجيش، مما حمل الدولة الناشئة أعباء سياسية واقتصادية إضافية. وخلال الحكم المدني الذي استمر في العقد الأول بعد الاستقلال، انشغلت النخبة السياسية بالقضايا الجانبية وبالمنافسة الشديدة فيما بينها. ويسجل التاريخ بعض الحوادث الغريبة التي تم التنازع عليها منذ بداية عمر الدولة، بما في ذلك قضية الصراع بين الرئيس آدم عبد الله عثمان وأعضاء البرلمان حول مشروع قانون لزيادة رواتب النواب.
8 Harold D. Nelson, Somalia, A country Study, P. 53
9There was no Somali doctor, pharmacist, engineer or secondary teacher in Somalia at the time. See History of Somalia, p. 247.
الرئيس عارض ذلك بينما أيده نائبه واعتبر الموافقة على هذا القانون شرطًا لتمرير حكومة عبد الرزاق في البرلمان. تمكن النواب من تمرير مشروع القانون بأغلبية بسيطة، لكن الرئيس استخدم حق النقض (الفيتو) لمنع تمرير القانون، وأعاد المشروع إلى البرلمان الذي كان بحاجة إلى أغلبية الثلثين لتجاوز فيتو الرئيس، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه. في النهاية، انتصر الرئيس على النواب، وكان موقفه قائمًا على رفضه لفكرة الوضع الاقتصادي للبلاد والفيضانات التي اجتاحت المحافظات الجنوبية في تلك الفترة.
في السنوات الأولى من الحكومة، قامت النظام العسكري بقيادة سياد بري بمحاولات لإعادة ترتيب سلم الأولويات. وعلى الرغم من تركيزه على بناء القوة العسكرية والاعتماد على الاتحاد السوفيتي، فقد حاول تحقيق بعض الوظائف الرئيسية للدولة، بما في ذلك توفير فرص العمل وتحسين خدمات التعليم (كتابة اللغة الصومالية) والصحة، استجابة لتطلعات الشعب التي لم تتحقق على أيدي النخبة المدنية، من أجل الحصول على الشرعية والدعم الذي يحتاجه وترسيخ أقدامه كحكومة. ولكن التوتر السياسي الذي بدأ بعد إعدام بعض القادة السياسيين بتهمة التخطيط للانقلاب، وكذلك القادة الدينيين الذين اعترضوا على قوانين الأحوال الشخصية المخالفة لأحكام القرآن، ثم تداعيات هزيمة الصومال في الحرب مع إثيوبيا وضرب السلم المدني بين الشعب الصومالي، كل هذه التطورات جعلت تلك المحاولات تذهب أدراج الرياح.
إصلاح الجهاز الإداري للدولة:
يُعد هذا أحد التحديات الداخلية المرتبطة بإدارة الدولة الصومالية. كان الجهاز الإداري في حقبة الاستعمار يؤدي وظائف بسيطة تلبي احتياجات الإدارة الاستعمارية، مثل المترجمين، والجنود، والكتبة، والقضاة، وشيوخ القبائل. وقد تم إنشاء الجهاز الإداري الحديث للصومال خلال فترة الوصاية الدولية في الفترة بين عامي 1950-1960، في الجنوب، خاصة بعد إطلاق سياسة “الصوملة” عام 1954. ورافق تنفيذ هذه السياسة، التي أشرفت عليها الإدارة الإيطالية، عدد من المشكلات، بما في ذلك: نقص التدريب اللازم لأعضاء الجهاز بسبب عدم توفر الميزانية المخصصة لذلك، والفساد المالي الذي قامت به الإدارة، وضيق الوقت المخصص للإعداد، والعجلة التي نُفذت بها العملية والتي كانت تسابق الزمن لاستكمال البرنامج قبل موعد الاستقلال. أما في الشمال، فلم تكن هناك فرص مشابهة للإعداد للاستقلال.
وعند لحظة استقلالها، ورثت الدولة الصومالية جهازًا إداريًا يعاني من المشكلات المذكورة آنفًا، مما استلزم إجراء إصلاح جذري وتطوير نوعي. لكن بدلاً من ذلك، واصلت الحكومات الوطنية المدنية في السنوات الأولى بعد الاستقلال توسيع حجم الجهاز الإداري إلى ما يتجاوز طاقته الاستيعابية، من خلال توظيف أعداد كبيرة من المواطنين فيه دون مراعاة الحاجة للعمل أو التأهيل والمنصب الذي يشغله الموظف، ودون توفير وظائف جديدة، حيث كان التوظيف يحدث فقط استجابةً للضغط القبلي والقيادات البارزة. وقد أدى ذلك إلى تضاعف حجم الجهاز الإداري، ومن ثم عانى من اكتظاظ العاملين والموظفين غير المؤهلين للمناصب التي يشغلونها. كما عانى الجهاز الإداري للدولة من عدم الاستقرار بسبب انتقال الموظفين والعاملين من وزارة إلى أخرى، بحيث أصبحت القضية مرتبطة بتغيير الحكومات والوزراء.
قضية إصلاح الجهاز الإداري للدولة الصومالية أصبحت مسألة ملحة بعد سنوات قليلة من الاستقلال، وكانت محاولة رئيس الوزراء عبد الرزاق حاج حسين (1964-1967) أبرز الجهود المبذولة لإصلاح الجهاز في تلك الفترة، حيث جعل هذه القضية واحدة من أهم أولويات برنامج حكومته، رغم الصعوبات وحساسية الموضوع والضغوط التي واجهها من الشخصيات المؤثرة في البرلمان والحكومة. وبالفعل، قام عبد الرزاق بتشكيل لجنة برئاسة خبير كندي أعدت دراسة شاملة حول الموضوع. ونتيجةً لهذه الدراسة، قام رئيس الوزراء بفصل مئات الموظفين الذين تم توظيفهم عن طريق المحسوبية ودون اعتبار للكفاءة، وصحح أوضاع العديد منهم. وكان من بين من تم فصلهم من الخدمة شقيق رئيس الوزراء نفسه، مما منح عملية الإصلاح مصداقية كبيرة لدى الجمهور الصومالي في ذلك الوقت.
أحدث النظام العسكري تغييرًا جذريًا في طبيعة الدولة الصومالية، وأزاح النخبة السياسية المدنية التي قادت البلاد نحو الاستقلال خلال العقد الأول بعد الاستقلال، وبدلاً من ذلك اعتمد على الموظفين في الجهاز الإداري لإدارة شؤون الدولة. وأظهر اهتمامًا كبيرًا بأعضاء الجهاز الإداري في السنوات الأولى من الانقلاب، كما ورد في خطاب وجهه سياد بري إلى الموظفين المدنيين، حيث قال: “أنتم العمود الفقري للأمة، ولديكم دور كبير في إدارة البلاد بغض النظر عمن هو في السلطة. الحكومات تأتي وتذهب، لكن الموظفين المدنيين يبقون في الخدمة.
توسّع الجهاز الإداري من حيث العدد، حيث تم إنشاء المزيد من المناصب في الفترة الأولى من الحكم العسكري نتيجة الوفرة المالية التي جاءت من السيطرة على الفساد المالي والاختلاس الذي كان منتشرًا في الحقبة المدنية، والدعم المالي الخارجي الذي قدمه الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت. لكن المشكلة تفاقمت بشكل أكبر بعد هزيمة الصومال في الحرب ضد إثيوبيا عام 1978.
كان لتلك الهزيمة تداعيات سياسية واقتصادية على البلاد، حيث تدهور الاقتصاد الصومالي في الثمانينيات، وانخفض سعر صرف الشلن الصومالي. بالإضافة إلى ذلك، تفاقم التضخم المعيشي وانتشر الفساد ليشمل كافة مفاصل الدولة. وقد عبّر الفنانون الصوماليون عن هذا الفساد المستشري في كوادر الدولة من خلال المسرحية “Land Cruzergadosobarigalay”، التي تعني “امتلك سيارة لاند كروزر وعِش على مساعدات القمح التي يقدمها لك العالم.
هذا الوضع جعل مسألة الإصلاح في جهاز الدولة، بما في ذلك الجهاز الإداري، أمرًا بعيد المنال. وبالفعل، ظهرت علامات انهيار الدولة في أواخر الثمانينيات.
(ف) القبلية السياسية
تمثل القبلية البنية الاجتماعية للشعب الصومالي، والتي تتكون من قبائل، وفروع القبائل، وتفرعاتها. قبل إنشاء الدولة المركزية الحديثة المعقدة، كانت القبائل كيانًا اجتماعيًا وسياسيًا مستقلًا. وقد استغل الاستعمار الأوروبي قوة القبيلة السياسية وجعلها جزءًا من الإدارة الاستعمارية. وعندما جاءت الحركة الوطنية وتبنت فكرة القومية والوطنية، اتخذت موقفًا متطرفًا تجاه القبائل باعتبارها عاملًا يقسم الشعب الصومالي ويعارض الوطنية والوحدة القومية. ويعتقد البعض أن من الأخطاء السياسية للحركة الوطنية الصومالية، خاصة حزب وحدة الشباب، تجاهل وإنكار الاختلافات القبلية بين الصوماليين بدلًا من التعامل معها ومحاولة معالجتها.
تعرض أنصار الحركة الوطنية الصومالية (SYL) للاضطهاد من قبل إيطاليا في السنوات الثلاث الأولى من الوصاية، وكان يتم توقيف أي شخص يسير في الليل وسؤاله عن قبيلته، ثم يُطلق سراحه. وإذا رفض ذكر قبيلته، يتم اعتقاله لأنه يُعتبر عضوًا في الحركة الوطنية الصومالية. وفي إحدى الليالي، تم اعتقال شاب وسؤاله “من أي قبيلة أنت؟ (Chetue Cabila)” فأجاب: “هذه الليلة أنا أبجال.” لكنهم لم يفهموا قصده، فأطلقوا سراحه.
ومع ذلك، منذ فترة الوصاية الدولية (1950-1960) للإعداد لاستقلال جنوب الصومال، أدت الحاجة إلى تمثيل الشعب والحصول على الأصوات في الانتخابات إلى استغلال القبلية من قبل الأحزاب السياسية، فأصبح الاعتراف بالقبلية واقعًا وضرورة للحفاظ على الالتفاف الشعبي حول السلطة. كما أصبحت الحكومات والأحزاب تعكس طيف القبائل، وبالتالي أصبحت الحصص القبلية واحدة من أسس الدولة الصومالية منذ الاستقلال.
ومن أهم ركائز السياسة القبلية أن لكل قبيلة منطقة جغرافية متمركزة فيها عبر العصور، وتعمل كدولة داخل الدولة، تدافع عن حدودها من القبائل الأخرى مما يعقد المصالحة والتحالف مع القبائل الأخرى. وكان على القيادة السياسية توظيف هذه الركائز لصالح الدولة الصومالية، من خلال خلق تكامل بين القبائل المجاورة المختلفة وخلق مصالح مشتركة لهذه القبائل.
تحدي القبلية السياسية، الذي واجهته النخبة السياسية عند ظهوره، تمثل في الازدواجية السياسية التي نشأت حول معضلة التوفيق بين تمثيل الحزب وتمثيل القبيلة (حيث ينتمي السياسي إلى قبيلة وحزب في الوقت نفسه)، وبين الخطاب الوطني الذي يمجد الوطنية والخطاب الشعبي الموجه إلى القبيلة، وبين مصالح القبيلة ومتطلباتها والمصالح العليا للدولة. واجهت النخبة السياسية الفكرة الراسخة للقبيلة حيث يتوقف رضاها عن الحكومة ودعمها للحزب على مدى استجابة السياسيين وممثلي الحزب لمطالبها، وكذلك مدى وجود أفراد منتمين إلى القبيلة في الحكومة. وقد ظهرت تداعيات هذه النقطة المأساوية في التنافس على الوظائف بين القبائل، ونظرتهم إلى المسؤول والمنصب الذي يشغله المسؤول باعتباره يمثل القبيلة وليس الحزب أو الشعب عمومًا، ومن ثم “يُنظر إلى الصراعات القبلية على أنها العنصر البارز في السياسة الصومالية وفي تشكيل الدولة وانهيارها ().
لمواجهة هذه الظاهرة، تبنت النخبة السياسية المدنية استراتيجية مواصلة الخطاب الوطني الذي يمجد الوطنية ويوبخ القبلية عبر الفعاليات والإذاعة وكتابة عشرات الأغاني، مع استمرار الازدواجية السياسية في التعامل مع القبيلة. أما النظام العسكري، فقد اتخذ وسائل أكثر راديكالية وعنفًا، شملت – بالإضافة إلى الخطاب الوطني السابق – محاولة إلغاء المناصب والألقاب الخاصة بزعماء القبائل، وإصدار قانون يجرّم القبلية. ومع ذلك، أصبحت المعضلة أكثر بروزًا بعد ثلاثة عقود من تبني محاربتها، وانهارت الدولة الصومالية بينما بقيت القبائل قائمة، ولا يزال الصوماليون عالقين في مشكلة الفجوة الواسعة بين المبادئ الوطنية الوافدة التي توبّخ القبائل وتدعو دائمًا إلى رفضها وتجرّم حتى مجرد النطق باسم القبيلة، والواقع القائم على الولاء للقبائل ذات الجذور العميقة في الثقافة الصومالية. وما زال هناك غياب لأي تقارب بين الفكرتين لإيجاد طريق وسطي يجمع بين الدولة والمجتمع، وبين القبلية والوطنية، وبين الوافد والموروث.
التحديات الخارجية.
كما واجهت الدولة الصومالية تحديات داخلية خطيرة، كانت هناك تحديات خارجية أكبر فيما يتعلق بالتفاعل السياسي بين الدولة الصومالية والمجتمع الدولي. وقد ساهم ذلك، إلى جانب التحديات الداخلية، في وصول الدولة الصومالية إلى طريق مسدود بعد ثلاثة عقود من وجودها. أما بالنسبة للتحديات الخارجية، فإن أهمها هي: الصراع الإقليمي مع الدول المجاورة حول الأراضي المفقودة، التموقع في الحرب الباردة، وسوء الحسابات والفهم للسياسة الدولية.
أ) الصراع الإقليمي مع الدول المجاورة حول الأراضي المفقودة:
أحد أكبر التحديات الخارجية التي واجهتها الدولة الصومالية منذ نشأتها وحتى الآن هو تحدي الصراع مع الدول الأفريقية المجاورة، إثيوبيا وكينيا، حول منطقتي إنفدي والصومال الغربي (أوغادين). تغطي حدود هاتين الدولتين أكثر من 90% من الحدود الدولية للصومال، وتمثلان سياجًا يحجب الصومال عن المحيط الأفريقي. يعود الصراع بين الصومال وجيرانه إلى عصر التنافس الأوروبي على الأراضي الصومالية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والذي أسفر عن تقسيم الشعب الصومالي إلى خمس مستعمرات تحت إدارة ثلاث دول أوروبية: إيطاليا، بريطانيا، وفرنسا، بالإضافة إلى الحبشة. منذ نشأتها في أوائل الأربعينيات، تبنت الحركة الوطنية للتحرير الصومالي قضية تحرير الصومال الكبرى، التي تشمل الأقاليم الصومالية الخمسة وتوحيدها تحت دولة صومالية واحدة. وأقامت الحركة الوطنية فروعًا لها في تلك الأقاليم التي شاركت مع الحركة الأم في النضال من أجل الحرية والوحدة.
بعد استقلال المنطقتين الشمالية والجنوبية وتأسيس الجمهورية الصومالية في الأول من يوليو عام 1960، تبنت الدولة قضية تحرير الأراضي المفقودة. وعبر العلم الصومالي عن هذا الحلم بوضع نجمة بيضاء ذات خمسة رؤوس في وسطه ترمز إلى الأقاليم الصومالية الخمسة. وفي دستور الوحدة والاستقلال الذي جرى التصويت عليه في الاستفتاء عام 1961، وضعت الدولة مواد خاصة بهذه القضية. ووضعت الحكومات المدنية والعسكرية الصومالية المتعاقبة هذه القضية في اعتبارها خلال مرحلة الاستقلال، وجعلتها على رأس أولويات سياستها الخارجية وبرنامجها السياسي الداخلي. ولم تكن القضية تخص الحكومات وحدها، بل كانت في مراحلها المختلفة قضية رأي عام صومالي لا تستطيع الحكومات التنازل عنها. فمثلًا، واجهت حكومة رئيس الوزراء محمد إبراهيم عقال (1967-1969) موجة من الاتهامات بالخيانة من الرأي العام بعد توقيعها اتفاقية هدنة مع الحكومة الكينية عام 1967.
بسبب تبني الصومال لقضية الأراضي المفقودة، دخلت الدولة الصومالية في معركة سياسية ودبلوماسية على المستويين الدولي والإقليمي. وواجهت بريطانيا مقاومة بسبب ضمها منطقة إنفدي إلى كينيا. وبعد إجراء الاستفتاء على المنطقة، أظهر نتيجة قوية تدعم الانضمام إلى الصومال عام 1963. فقطعت الدولة الصومالية علاقاتها مع بريطانيا، قبل أن تُعاد بعد أربع سنوات من القطيعة. كما واجهت فرنسا التي كانت تحتل المنطقة الصومالية الفرنسية (جيبوتي لاحقًا) حتى حصلت المنطقة على استقلالها عام 1977، ودفع الصومال ثمنًا باهظًا لتلك المواجهة.
تعتبر بريطانيا وفرنسا من القوى الاستعمارية الأوروبية التقليدية ومن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وتتمتعان بعضوية دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وعلى المستوى الإقليمي، دخل الصومال في مواجهة لا تقل خطورة عن معركته الدولية مع قوتين إقليميتين كبيرتين في أفريقيا: إثيوبيا وكينيا، اللتين تعدان من الدول ذات الكثافة السكانية في المنطقة ومن الدول المؤثرة في منظمة الوحدة الأفريقية، وتستضيف إثيوبيا مقر المنظمة الأفريقية.
في إطار مواجهتهما الدبلوماسية والسياسية مع الجارتين في أروقة المنظمة الأفريقية، تبنى الصومال مبدأ حق تقرير المصير للشعب الصومالي في المنطقتين. بينما اعتمدت إثيوبيا وكينيا على المبادئ الواردة في ميثاق المنظمة عند تأسيسها، وهي: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وحقها غير القابل للتصرف في استقلال كيانها، والتسوية السلمية للنزاعات عبر التفاوض والوساطة والتوفيق والتحكيم. كما اعتمدتا على قرار الإبقاء على الحدود الأفريقية كما هي عند الاستقلال، الذي تم اتخاذه في مؤتمر القاهرة الثاني للمنظمة عام 1964. وفي ضوء الأساس القانوني الذي وفرته المنظمة الأفريقية، بدأت الدولتان تنسقان مواقفهما وتشددان الخناق على الصومال، ووقعتا اتفاقية دفاع مشترك بينهما ضد الصومال عام 1964.
شملت المواجهة بين الطرفين استخدام جميع الآليات المتاحة، بما في ذلك المواجهة العسكرية التي وقعت بين الصومال وإثيوبيا في عامي 1964 و1977. وقد عانت الدولة الصومالية الفتية من تداعيات هذه المواجهات، والتي تمثلت في سباق التسلح في المنطقة، والإنفاق الكبير على الجيش، وعسكرة المجتمع الصومالي، وفرض الخدمة العسكرية، والمشاركة في المعركة، وهو ما لعب دورًا رئيسيًا في ظهور جبهات المعارضة المسلحة الصومالية، واشتعال الحرب الأهلية الصومالية، وما تلا ذلك من انهيار الدولة.
ب) التموقع في الحرب الباردة:
من بين التحديات الخارجية التي ظهرت مع استقلال الدولة الصومالية كانت الحرب الباردة التي بلغت ذروتها في ذلك الوقت، والاستقطاب الدولي للدول المستقلة حديثًا، والموقع الاستراتيجي للصومال الذي جذب انتباه القوى الكبرى، بالإضافة إلى حدة الصراع العربي-الإسرائيلي في تلك الفترة وتداعياته على الصومال. في خضم أمواج الحرب الباردة، لم ينجح مبدأ الحياد الإيجابي الذي اتخذته الصومال كنهج لسياستها الخارجية. بل إن حاجتها الشديدة إلى المساعدات الاقتصادية، والدعم العسكري، وبناء جيشها لاستعادة الأراضي المفقودة دفعتها إلى طرق جميع الأبواب ومحاولة المشاركة على طاولات المعسكرين في الوقت نفسه.
تجلت هذه السياسة المزدوجة للدولة الصومالية ومحاولتها الحصول على دعم كلا المعسكرين خلال الحكم المدني، حيث كانت الصومال تتلقى مساعدات خارجية من الغرب عبر البوابة الإيطالية، وفي الوقت نفسه تسعى للحصول على مساعدة الاتحاد السوفيتي. بدأت هذه السياسة بتوقيع اتفاقية التعاون مع السوفييت عام 1961. ومن الملاحظ أن إيطاليا، القوة الاستعمارية للصومال وراعيته الدولية، اتبعت بدورها نفس الازدواجية السياسية وحاولت في تلك الفترة – رغم ارتباطها الوثيق بالولايات المتحدة – إقامة علاقات مع الدول الشرقية وفتح خياراتها معها.
نتيجة لذلك، واجهت الدولة الصومالية ضغوطًا سياسية من كلا المعسكرين، إذ لم يكن هذا النهج مقبولًا منهما، بسبب المبادئ التي حاولت الصومال التمسك بها مثل عدم الانحياز والصداقة مع الجميع.
على الرغم من تموضع الصومال وتورطها في الحرب الباردة في فترة الحكم المدني، إلا أن درجة التورط كانت أقل مقارنة بالنظام العسكري الذي جاء إلى السلطة عام 1969. أنهى النظام العسكري سياسة الازدواجية في علاقة الصومال مع القوى الكبرى وحاول الحصول على مساعدات من كلا المعسكرين، حيث وضع كامل ثقله في المعسكر الشرقي وأدار ظهره للغرب، مع الحفاظ على علاقات قوية واستثنائية مع إيطاليا. حصلت الصومال نتيجة لهذه الخطوة على مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة من الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، وأصبح ميناء بربرة أكبر قاعدة عسكرية سوفيتية خارج أوروبا الشرقية.
يُعتبر رفض الغرب تزويد الصومال بالأسلحة لمواجهة خصمها الإثيوبي أحد أهم الأسباب التي دفعتها للانضمام إلى المعسكر الشرقي. واجهت الصومال مجددًا، بعد ست سنوات من انضمامها إلى المعسكر الشرقي، مأزقًا سياسيًا تمثل في تحول إثيوبيا بقيادة منغستو نحو الكتلة الشرقية.
أدخل هذا التحول الصومال في طريق مسدود، حيث لم تعد المصالح المشتركة بين الصومال والاتحاد السوفيتي لمواجهة إثيوبيا الموالية للغرب صالحة، بعد أن تبنى قادة إثيوبيا الجدد الأيديولوجية الشيوعية وانضموا إلى المعسكر الذي يشمل الصومال أيضًا. حاولت الصومال كسر هذا المأزق بشن حرب على إثيوبيا الاشتراكية عام 1977، واضعةً السوفييت أمام الأمر الواقع. دفعت الصومال ثمنًا باهظًا نتيجة تلك الخطوة الطائشة، بعد أن وقفت الكتلة الشرقية بكل ثقلها مع إثيوبيا وهزمت الصومال.
ومن هنا جاء التحول المفاجئ للموقف الصومالي من الحرب الباردة، وعادت إلى أحضان المعسكر الغربي. وبهذا تحول ميناء بربرة، بعد سنوات قليلة من كونه أكبر قاعدة سوفيتية في المنطقة، إلى أكبر قاعدة أمريكية في القرن الأفريقي عام 1978.
وبالتالي، فإن تغير موقف الصومال من الكتلتين المتنافستين في الحرب الباردة ثلاث مرات خلال العقدين التاليين للاستقلال، بالإضافة إلى التموضع في الحرب الباردة والتحول الجذري والسريع في تحالفاتها الدولية، شكل تحديًا كبيرًا لسياستها الخارجية. وقد أوقعها ذلك في مأزق سياسي كانت له آثار وتداعيات سلبية تجاوزت قدرة الدولة الصومالية على استيعاب هذه التحولات.
من جهة أخرى، سحبت القوتان العظميان دعمهما للدولة الصومالية وصنفتا الرئيس الصومالي كشخص غير موثوق في تعامله مع الدول الكبرى.
ج) سوء الحسابات وسوء فهم السياسة الدولية:
كان فشل القيادة الصومالية في فهم السياسة الدولية وقراءتها بشكل صحيح وواقعي، وسوء تقديرها لمواقفها تجاه القضايا الدولية، وتحديها للقوى الكبرى في مرات عديدة، واستخدامها دبلوماسية قاسية وغير لبقة مع الأصدقاء والمنافسين الدوليين والخصوم، من بين أكبر التحديات الخارجية التي واجهت الدولة الصومالية. بدأت هذه المعضلة مع انطلاق الحركة الوطنية الحديثة في الأربعينيات، مرورًا بمرحلة الوصاية الدولية على جنوب الصومال (1950-1960)، وانتهاءً بمرحلة الاستقلال الوطني خلال العقود الثلاثة التي عاشتها الدولة الصومالية قبل انهيارها الكامل عام 1991.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو مطالبة قادة الحركة الوطنية الصومالية، ممثلين في حزب العصبة الشبابية الصومالية، بالوصاية الجماعية من قبل القوى الأربع المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بدلًا من الوصاية البريطانية التي كانت بريطانيا ترغب فيها. كان من الممكن أن يساهم ذلك في توحيد الأقاليم الصومالية التي كانت تحت الإدارة البريطانية.
من بين المواقف التي تشير إلى سوء التقدير السياسي أيضًا قضية الصدام مع إيطاليا بعد إعلان الوصاية الدولية على الصومال، بسبب مخاوف حزب وحدة الشباب من إطالة أمد الوصاية الأممية، رغم التطمينات الإيطالية وصعوبة تحقيق ذلك لإيطاليا بسبب ارتباطها بقرار الأمم المتحدة. ولم يكن الأمر يخص حزب وحدة الشباب وحده، بل شمل أحزابًا أخرى؛ حيث انشغلت أحزاب المعارضة مثل حزب دوجيل ومرفالي في البحث عن فرص لإطالة أمد الوصاية الدولية.
اعتقد الصوماليون، بشكل خاطئ، أن بإمكانهم أو بإمكان إيطاليا التصرف بسهولة وببساطة في مصير المنطقة بعد أن قررت الأمم المتحدة وضعها. كما أن التعجل في الحصول على الاستقلال قبل الموعد المحدد بستة أشهر في ديسمبر 1960 كان من بين المؤشرات على قلة الخبرة، بالرغم من أن الفترة الزمنية القصيرة لم تكن كافية لإكمال العمل والمهام المطلوبة لبناء الدولة الصومالية وإعداد الصوماليين لتولي قيادة بلدهم وإدارة الدولة.
عوامل سوء إدارة ملف السياسة الخارجية:
فشل القيادة الصومالية في إدارة ملف السياسة الخارجية والتعامل مع المجتمع الدولي منذ الفترة المبكرة لتحضير الصوماليين لاستلام الدولة يعود إلى عدة عوامل، منها:-
- احتكار إيطاليا لملف الدفاع والسياسة الخارجية خلال مرحلة الوصاية.
- عدم إعداد القادة الوطنيين الصوماليين لتحمل تلك المسؤولية بعدم إشراكهم في صناعة القرار في السياسة الخارجية وتأجيل هذا الأمر حتى الاستقلال.
- نقص الخبرة القيادية وصغر عمر القادة، حيث إن غالبية قادة الحزب بعد الاستقلال، على سبيل المثال، كانوا في الثلاثينيات من أعمارهم. وعند صياغة الدستور عام 1961 وتحديد سن الترشح لمنصب رئيس الجمهورية بأربعين عامًا، لم يتمكن العديد من أعضاء الأحزاب البارزين في الشمال والجنوب من الترشح بسبب هذا الشرط، ومن بينهم عبد الله عيسى، كما كان جميع الوزراء من المناطق الشمالية في الحكومة حينها تحت السن القانونية للترشح للمنصب.
الصدام مع القوى الكبرى خلال الحكم المدني:
استمرت معضلة سوء الفهم بين الصومال والمجتمع الدولي والصدام مع القوى الكبرى خلال فترة الحكم المدني، رغم تبني الصومال مبدأ الحياد الإيجابي في سياستها الخارجية ومحاولاتها كسب الأصدقاء الدوليين وإقامة علاقات دبلوماسية مع ست وعشرين دولة ومنظمة دولية. من أبرز الأزمات في السياسة الخارجية الصومالية كان قطع العلاقات مع بريطانيا بعد ضم منطقة إنفدي إلى كينيا عام 1963، ضمن إطار سياسة الصومال لتحقيق الصومال الكبرى.
سوء تقدير الحساسيات الدولية والإقليمية
فشلت القيادة الصومالية في تقدير حجم التحدي المطلوب لتغيير الحدود التي ورثتها الدول الأفريقية عن القوى الاستعمارية، وخاصةً موقف الدول الأفريقية ومنظمة الوحدة الأفريقية.
سوء التقدير السياسي خلال الحكم العسكري:
تصاعدت التقلبات السياسية والدبلوماسية خلال فترة الحكم العسكري (1969-1991)، حيث شهد النظام تقلبات حادة في توجهه السياسي مع القوى الكبرى، تمثل ذلك في تغيير موقفه مرتين خلال عقد واحد (1969-1978). في البداية، توجه النظام بالكامل نحو الاتحاد السوفيتي، وحصل على مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة منه. لكن سرعان ما تغيرت الأمور بعد قرار الحرب ضد إثيوبيا عام 1977، حيث قطع النظام علاقاته مع السوفييت ورفض نصائح دول المعسكر الشرقي في مؤتمر عدن مارس 1977.
تداعيات سوء التقدير على الصومال:
- قطع العلاقة مع السوفييت رغم اعتماد الجيش الصومالي على الأسلحة والمعدات السوفيتية.
- الانضمام إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة عام 1978، ما أثار غضب القوى الكبرى بسبب استغلال الصومال لها.
- فشل الصومال في فهم حدود قدرته على فرض أجندته على القوى الكبرى أو تغيير الحدود الأفريقية المعترف بها دوليًا.
في النهاية، تسبب سوء التقدير السياسي ودبلوماسية الصومال مع القوى الكبرى في ضرر بالغ لمصالحه الاستراتيجية ومكانته الدولية، وكان أحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في انهيار الدولة لاحقًا.
القضية الثانية – التحديات الاقتصادية:-
تُعد التحديات الاقتصادية واحدة من أكبر التحديات التي واجهتها الدولة الصومالية منذ بداية الحديث عن استقلالها وقبل وضع المنطقة الجنوبية تحت الوصاية الدولية في عام 1950. وكان السؤال الأبرز بين الأطراف الدولية المعنية خلال تلك الفترة يدور حول إمكانية توفير موارد اقتصادية كافية ودائمة للدولة الصومالية في حال منحها الاستقلال. لم تكن المشكلة في نقص الموارد أو عدم توفرها، بل كانت المعضلة تتمثل في كيفية استغلال تلك الموارد واستثمارها (لم تكن البلاد فقيرة بل الدولة هي الفاشلة).
على هذا الأساس، فإن المناطق الصومالية الشمالية والجنوبية التي شكلت الجمهورية الصومالية بعد الاستقلال عن الدول الاستعمارية، بريطانيا وإيطاليا، لم ترث هيكلًا اقتصاديًا كبيرًا خلال فترة استعمارها. فقد فشلت الدول الاستعمارية، بريطانيا وإيطاليا، في تحقيق درجة من التنمية الاقتصادية في المنطقتين، وهو ما كان من شأنه لاحقًا أن يمكن الدولة الصومالية من البقاء اقتصاديًا واستغلال الموارد الطبيعية التي تمتلكها. الأدبيات الاستعمارية المكتوبة التي تناولت تاريخ الصومال في تلك الفترة تقلل من أهمية العامل الاقتصادي في استعمار المنطقة، وتُلقي بمسؤولية التخلف الاقتصادي على عاتق سكان المنطقة.
التحديات الاقتصادية في فترة الوصاية الدولية: (1950-1960)
أصبحت معضلة التخلف الاقتصادي قضية ملحة بعد وضع الصومال الإيطالي تحت الوصاية الدولية. تولت الأمم المتحدة مسؤولية توفير ميزانية المنطقة وأسندت إلى إيطاليا مهمة تطوير موارد المنطقة خلال فترة الوصاية، بحيث تستطيع الدولة الصومالية الاعتماد على نفسها بعد انتهاء فترة الوصاية. إلا أن إيطاليا لم تنجح في أداء المهمة الموكلة إليها ولم تحقق أهداف التنمية الاقتصادية للمنطقة. انتهت فترة الوصاية الدولية دون تحقيق تلك الأهداف، وأصبح لزامًا على الأمم المتحدة مواصلة الدعم الاقتصادي للدولة الناشئة في ظل الآمال المعقودة على القيادة الوطنية الصومالية لتحقيق ما عجزت القوى الأوروبية عن تحقيقه.
الوضع في الشمال مقارنة بالجنوب:
لم يكن الوضع في محمية بريطانيا في الشمال أفضل حالًا من الجنوب، بل كان أسوأ اقتصاديًا، حيث لم يُمنح الشمال فرصة الاستعداد للاستقلال كما حدث في الجنوب. قررت بريطانيا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين منح المنطقة الشمالية الحرية للاستقلال. وعندما انضمت المنطقة الشمالية إلى الجنوبية، كانت في وضع اقتصادي أسوأ، مما زاد من عبء أزمة التخلف الاقتصادي التي عانت منها الدولة الصومالية الناشئة المكونة من المنطقتين.
التحديات الاقتصادية بعد الاستقلال:
على هذا الأساس، وُلدت الدولة الصومالية في ظل أزمة اقتصادية خنقتها منذ البداية. وشملت التحديات جميع المجالات الاقتصادية، بما في ذلك:
- تطوير وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية.
- العجز الدائم في الميزانية العامة.
- العجز في الميزان التجاري.
- الفشل في تنويع مصادر الاقتصاد.
- الاعتماد على المساعدات الخارجية.
- الكوارث الطبيعية التي دمرت الاقتصاد الصومالي الهش بشكل دوري.
تأثير الكوارث الطبيعية على الاقتصاد:
- أدت موجات الجفاف المتكررة إلى موت الحيوانات وتدمير المحاصيل الزراعية التي تعتمد على الأمطار.
- تسبب فيضانات نهري شبيلي وجوبا في الجنوب في تدمير حياة سكان ضفاف النهرين.
- انتشار المجاعات التي ضربت غالبية سكان الصومال الرحل الذين يعتمدون على الرعي.
بسبب هذه الظروف، عاشت الدولة الصومالية بين فشل التنمية الاقتصادية وتأثير الكوارث الطبيعية.
البحث عن موارد اقتصادية بديلة:
في ظل محاولات الإجابة عن كيفية إيجاد موارد اقتصادية كافية لإدارة الدولة الصومالية منذ فترة الوصاية الدولية (1950-1960)، كان من بين البدائل المطروحة إمكانية اكتشاف النفط في البلاد، حيث بدأت الشركات الأمريكية في التنقيب عن النفط في الصومال منذ عهد الوصاية الدولية. وأشار أحد الكُتّاب البريطانيين إلى تلك التساؤلات والمخاوف بشأن المصير الاقتصادي للدولة الصومالية بعد الاستقلال، قائلًا:
“من غير المحتمل أن تكون الصومال قابلة للبقاء اقتصاديًا. هناك بحث محموم عن النفط جارٍ، لكن لم يُعثر على شيء. ستنشأ صعوبات كبيرة في البداية إذا انسحبت إيطاليا قبل تسوية قضية المساعدات الخارجية.
فشل القيادة الصومالية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية:
رغم وجود بدائل محتملة، إلا أن القادة الصوماليين لم يعطوا أولوية كافية لإدارة الدولة بعد الاستقلال ولم يوجهوا جهودهم نحو التركيز على تلك البدائل. على الجانب الآخر، فإن عدم الاستقرار السياسي للدولة الصومالية وحركتها بين معسكري الحرب الباردة خلق جوًا غير مشجع لأمريكا وشركاتها النفطية للاستمرار في البحث عن النفط والاستثمار في هذا المجال.
القضية الثانية – التحديات الاقتصادية:
تأسست الدولة الصومالية في عام 1960 وصُنفت حينها من بين أفقر 20 دولة في العالم، حيث كان ثلاثة أرباع السكان يعيشون تحت خط الفقر، وهي نسبة مرتفعة جدًا. كان نمو الاقتصاد الصومالي في العقد الأول من الاستقلال بطيئًا، حيث بلغ 1.3%، وهو أقل من معدل النمو السكاني السنوي الذي بلغ 2.6%. كانت الدولة تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية التي شكلت أكثر من 70% من إجمالي ميزانيتها.
فشل القيادة في مواجهة التحديات الاقتصادية:
رغم هذا الوضع المأساوي، لم تكن القيادة الصومالية على مستوى التحدي، إذ لم تشعر بخطورة المشكلة الاقتصادية التي كانت تواجهها، ولم تهتم بندرة الموارد أو خطط التنمية الاقتصادية التي لم تتحقق. تعاملت القيادة مع قضية المساعدات وكأنها مورد دائم لن ينضب، بل سيستمر إلى ما لا نهاية.
بدلاً من التركيز على معالجة الأزمة الاقتصادية والبحث عن طرق لجعل الدولة قابلة للحياة ومستدامة، وجهت النخبة السياسية اهتمامها نحو التنافس السياسي وقضية الأراضي المفقودة. بل لجأت إلى الفساد ونهب الأموال العامة، حيث بدت الدولة وكأنها تعمل لصالح النخبة الحاكمة فقط. هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الصومال، بل هي سمة عامة للدول الأفريقية، حيث “تستولي الدولة في أفريقيا على الفائض وعائدات الصادرات الزراعية، وخاصة من خلال هيئات التسويق، والتقييم المفرط للعملة الوطنية، وتوزيع النفقات العامة. تختلف مدى تلك التطورات وأنماط مؤسساتها والفئات الاجتماعية التي استفادت منها من بلد إلى آخر، ولكن عددًا قليلًا من الأنظمة شكل استثناءً للقاعدة العامة.
تجربة النظام العسكري مع التحديات الاقتصادية: (1969-1991)
لم يختلف تعامل النخبة العسكرية الحاكمة (1969-1991) مع الأزمة الاقتصادية كثيرًا عن نظيرتها المدنية خلال الحكم المدني (1960-1969)، رغم المحاولات التي بذلتها القيادة العسكرية في السنوات الأولى من حكمها. بدأت الحكومة العسكرية بمحاولات جدية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية، وأدركت أن حل تلك الأزمة مرتبط بمدى تحقيقها للشرعية التي فقدتها النخبة المدنية بعد فشلها في تلبية المطالب الاقتصادية.
في خطاب الرئيس محمد سياد بري بمناسبة عيد الاستقلال الصومالي في الأول من يوليو 1970، قال: “نفهم جيدًا أنه سيتم الحكم علينا من خلال سياستنا الاقتصادية وبناءً على النجاح أو الفشل الذي نسجله في هذا المجال.
خطوات النظام العسكري في السبعينيات:
- حصلت الحكومة العسكرية على فائض مالي في السنوات الأولى من حكمها، خاصة من الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية.
- قامت الحكومة بتجفيف مصادر الفساد التي مارستها النخبة المدنية وأعادتها إلى خزينة الدولة، مما خلق شعورًا بالرضا والتفاؤل لدى عامة الشعب.
- وضعت ثلاث خطط تنموية اقتصادية (1971-1974، 1975-1978، 1979-1981).
- حاولت الحكومة تنويع الاقتصاد الصومالي من خلال استغلال القطاعات الواعدة غير المستثمرة، مثل قطاع الثروة السمكية، وإنشاء وزارة خاصة بالأسماك عام 1973، وتخصيص ميزانية لها ضمن خطة التنمية. (1974-1978)
- تنويع الصادرات الزراعية الصومالية التي كانت تعتمد فقط على زراعة الموز، وتمت محاولة زراعة العنب وإنشاء مصنع لتعبئة الفواكه.
- تطوير بعض المصانع مثل مصانع السكر والغزل والنسيج والسجائر والجلود والأحذية.
أسباب فشل محاولات التنمية الاقتصادية:
رغم هذه المحاولات، لم تنجح الحكومة العسكرية في تحقيق التنمية الاقتصادية بسبب عدة عوامل داخلية وخارجية:
- الجفاف الشديد الذي ضرب عددًا من المناطق الأفريقية، بما في ذلك القرن الأفريقي، وأدى إلى نفوق ثلث الحيوانات في البلاد التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد الصومالي وتوفر 40% من العملة الصعبة.
- الحرب الصومالية الإثيوبية (1977/1978)، التي كانت لها آثار اقتصادية واجتماعية كارثية
- وقف المساعدات التقنية السوفيتية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين نتيجة معارضة السوفييت للحرب ودعمهم لإثيوبيا.
الوضع الاقتصادي في الثمانينيات:
رغم المساعدات الأمريكية للصومال في الثمانينيات ومحاولات الحكومة لإعادة هيكلة الاقتصاد، لم تساعد هذه الجهود الاقتصاد الصومالي، بل زادت من تفاقم المشكلات السياسية والاقتصادية. شهد الاقتصاد الصومالي حالة من الركود، وعاد إلى المربع الأول وزاد اعتماده على الخارج. على سبيل المثال، بلغ عجز الميزانية العامة في عام 1981 حوالي 734 مليون شلن صومالي، بزيادة 270% خلال عامين فقط.
- لجأت الحكومة إلى النظام المصرفي لتغطية العجز، مما زاد من ديونها وأثقل كاهل النظام المصرفي.
- توسع الجهاز الإداري للدولة من 18 ألف موظف قبل الانقلاب العسكري عام 1969 إلى أكثر من 50 ألف موظف في عام 1985، في وقت كان يعاني فيه الجهاز الإداري من تسرب العمالة الماهرة والمدربة بسبب الأزمة السياسية والتحيز القبلي وارتفاع تكاليف المعيشة.
الانهيار الاقتصادي والسياسي:
نتيجة تراكم الأزمات وتدهور الأداء الحكومي وتراجع المؤسسات العامة وانخفاض الاستثمارات الأجنبية والمحلية والمساعدات الدولية، بدأت الصومال في الاختفاء من التقارير الدورية للمؤسسات الدولية المعنية بالاقتصاد منذ منتصف الثمانينيات بسبب نقص البيانات والإحصاءات الاقتصادية.
- تفاقم الوضع الأمني نتيجة توسع العمليات العسكرية بين الجيش والفصائل المعارضة لنظام الرئيس بري.
- أشارت التقارير الغربية إلى الانهيار الكامل للدولة الصومالية، حيث وصفت الدولة بأنها “تحطمت كزجاج”، مما أدى في النهاية إلى انهيار الاقتصاد ومن ثم انهيار الدولة بعد وصول المعارك إلى مقديشو والإطاحة بالرئيس بري في يناير 1991.
القضية الثالثة – التحديات الاجتماعية:
التحديات الاجتماعية التي واجهتها الدولة الصومالية بعد الاستقلال تُعد من أبرز المشكلات والعقبات التي أثقلت كاهل الدولة، وأثرت على وحدة الشعب الصومالي، مما أعاق بناء الدولة وساهم في انهيارها وصعوبة إعادة بنائها. يمكن تلخيص هذه التحديات الاجتماعية في أربعة عوامل رئيسية:
- الصراع القبلي
- مشكلات الهوية
- تحدي الاندماج الوطني
- الهجرات الكبيرة من الريف إلى العاصمة والمدن الكبرى
- الصراع القبلي
الصراع التقليدي بين القبائل الصومالية حول الموارد الطبيعية مثل المراعي والمياه والماشية كان أحد العوامل التي أدت إلى عدم الاستقرار. وقد تطور الصراع القبلي ليشمل مستويين رئيسيين:
- الصراع التقليدي: وهو الصراع الذي كان يدور بين القبائل في الريف حول الموارد الطبيعية، وقد وُجد منذ القدم.
- الصراع السياسي: وهو صراع بين القبائل داخل مؤسسات الدولة على النفوذ السياسي والمناصب. هذا النوع من الصراع يبرز بشكل خاص في المدن.
أصبحت القبيلة الوحدة الاجتماعية الأساسية في المجتمع الصومالي، حيث تمثل الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى الأراضي الصومالية، تغيّر دور القبيلة بشكل جذري، حيث تم توظيف القبائل لخدمة المصالح الاستعمارية. استعان المستعمر الأوروبي بشيوخ القبائل ودفع لهم رواتب، مما أعطى القبيلة دورًا جديدًا يتجاوز دورها التقليدي.
بعد الاستقلال، استمر الصراع القبلي في الهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي، حيث أصبحت شيوخ القبائل تدير الصراع بين الدولة والقبائل بدلاً من إدارة الصراع بين القبائل نفسها. أصبحت المناصب السياسية تُرى على أنها تمثل القبيلة وليس الدولة بأكملها، وأُطلقت أسماء على الحكومات المتعاقبة تُشير إلى انتماء الرئيس ورئيس الوزراء القبلي، مثل: “دولة سعد، دولة محمود سليمان، ودولة ريحان.
- تحدي الاندماج الوطني
أحد العوامل الاجتماعية التي تؤثر على قوة الدولة هو قوة نسيجها الاجتماعي وقدرتها على تحقيق الاندماج الوطني بين مكوناتها. رغم وجود عناصر الوحدة الوطنية بين الشعب الصومالي مثل وحدة اللغة والدين والانتماء العرقي والعيش في منطقة جغرافية مستمرة، فإن الاختلافات الثقافية والسياسية التي نتجت عن أنماط الاستعمار المختلفة بين الشمال والجنوب أدت إلى بعض التباينات التي أثقلت كاهل الدولة الناشئة.
بعد الاستقلال، أصبحت هذه التباينات بين الشمال والجنوب واحدة من أكبر العقبات أمام تحقيق الاندماج الوطني. تضمنت القضايا الموروثة من الحقبة الاستعمارية أربع مشكلات رئيسية:
- تقاسم السلطة بين الشمال والجنوب.
- قضية اللغة الوطنية (الإنجليزية والإيطالية).
- توحيد النظم الإدارية.
- اختيار العاصمة.
كان توحيد منطقتين مختلفتين بشكل متسرع دون وضع حلول واضحة لهذه القضايا الحساسة، مثل تقاسم السلطة واللغة، أمرًا خطيرًا. أدى ذلك إلى شعور المواطنين في الشمال بالتهميش تحت مركزية الدولة، حيث انتقل السياسيون والنخب الشمالية إلى العاصمة مقديشو، مما أدى إلى شعورهم بالبعد عن الحكومة المركزية.
محاولة الانفصال والاحتجاجات المبكرة:
شهدت الصومال محاولة انقلاب عام 1961 قام بها ضباط من الشمال لفصل الشمال عن الجنوب. كانت هذه المحاولة إشارة مبكرة إلى حالة الاحتجاج السياسي في الشمال على وضعهم في الدولة الجديدة بعد الوحدة. عبر الشعراء عن هذا الاستياء، حيث قال عبد الله سلطان تعادهي:
.”الشيوخ في البرلمان والميناء في مقديشو، ولم يبقَ شيء لهرغيسا
- الهجرات من الريف إلى المدن الكبرى
شهدت الصومال موجات كبيرة من الهجرة من الريف إلى العاصمة والمدن الكبرى بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في المناطق الريفية. هذا التركز السكاني في المدن أدى إلى تفاقم مشكلات البطالة، وزيادة الضغوط على البنية التحتية الضعيفة، وتعميق الفجوة الاجتماعية بين الريف والمدن.
الخلاصة:
هذه التحديات الاجتماعية، سواء الصراع القبلي، أو عدم تحقيق الاندماج الوطني، أو الهجرة الريفية، ساهمت بشكل كبير في زعزعة استقرار الدولة الصومالية. أضعفت هذه التحديات جهود بناء الوحدة السياسية والاجتماعية وأثرت على قدرة الدولة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. أدى تراكم هذه الأزمات إلى انهيار الدولة في النهاية، حيث عجزت عن تحقيق التوازن بين مصالح القبائل المختلفة ومواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
- مشكلات الهوية الصومالية
تُعرف الهوية عمومًا بأنها “الطرق التي يتم بها تمييز الأفراد والجماعات في علاقاتهم الاجتماعية مع الأفراد والجماعات الأخرى”. وهناك الهوية الاجتماعية التي يُعرفها علماء الاجتماع على أنها تصنيف الأفراد لأنفسهم كأعضاء في مجموعة معينة، مثل الأمة، الطبقة الاجتماعية، الثقافة الفرعية، العرق، النوع، وغيرها. أما الهوية الثقافية فهي شعور بالانتماء إلى مجموعة ثقافية معينة، وهي فرع من الهوية الاجتماعية يركز على المكونات الثقافية. تمثل الهوية الثقافية ذاكرة جماعية مشتركة بين الأشخاص الذين يشتركون في نفس التاريخ، الأصل، والعرق. وتتأثر الهوية الثقافية بعوامل عديدة، مثل الدين، اللغة، الطبقة الاجتماعية، لون البشرة، الأصل، وغيرها. بمعنى آخر، تُعد الهوية الثقافية حجر الأساس لوجود الإنسان.
الهوية التقليدية للصومال قبل الاستعمار الأوروبي:
كانت الهوية الاجتماعية والثقافية التقليدية للشعب الصومالي قبل عملية إعادة الهيكلة التي مارستها السلطات الاستعمارية تعتمد على محورين رئيسيين: الإسلام والقبيلة. ومع ذلك، بعد وصول الاستعمار الأوروبي، بدأت عملية إعادة تشكيل الهوية الصومالية بإضافة عناصر جديدة وإنشاء ثقافة جديدة، واستمرت هذه العملية بعد الاستقلال وأثناء الحكم الوطني.
تأثير الاستعمار على الهوية الصومالية:
- فرق الاستعمار الهوية الصومالية عن طريق رسم الحدود الاستعمارية وتقسيم الشعب الصومالي بطريقة لم تحدث لأي شعب آخر في القارة الأفريقية. كانت هذه السياسة بمثابة الضربة الأولى للهوية الصومالية.
- كان النظام الثقافي هو الأكثر استهدافًا وتأثرًا بالإرث الاستعماري، حيث فرض الاستعمار ثقافته ولغته على الشعب الصومالي.
تحولات القيادة الاجتماعية والسياسية:
فرض الاستعمار نمطًا جديدًا للحياة الاجتماعية، وحول القيادة الاجتماعية من العلماء وشيوخ القبائل إلى شريحة جديدة أُنشئت تحت مظلة الاستعمار، وسُميت بـ”النخبة السياسية.
- تعاملت هذه النخبة مع عناصر الهوية الصومالية (الإسلام، اللغة، والتاريخ) باعتبارها أسبابًا للتخلف.
- قدمت النخبة النموذج الغربي كبديل للنظام القيمي والأخلاقي للمجتمع.
- أدى ذلك إلى صعوبة التوفيق بين متطلبات الدولة الحديثة والثقافة القبلية والهوية الإسلامية.
الصراعات الثقافية والفكرية:
على الرغم من التجانس الظاهر للشعب الصومالي من حيث اللغة، التقاليد، الدين، والتاريخ المشترك، إلا أن فترة الاستعمار والحكم الوطني شهدت صراعات حول الهوية الثقافية والفكرية والتنمية الإقليمية. تمحورت هذه الصراعات حول عدة ركائز:
- اللغة.
- الثقافة.
- القبلية.
- الإسلام.
- العلمانية.
- المواطنة.
- العروبة.
- الأفريقية.
حدثت هذه الصراعات على مستويات متعددة:
- بين العامة والنخب.
- بين المدينة والصحراء.
- بين الدولة والمجتمع.
الهوية كعائق أمام بناء الدولة والمجتمع
رغم حجم تلك التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أعاقت بناء الوحدة الوطنية الصومالية وبناء الدولة، لم تُعطَ النخبة السياسية الصومالية الاهتمام الكافي لحل هذه المشكلات والتعامل معها بجدية. المفارقة أن العديد من الأسس التي قامت عليها الدولة الصومالية، مثل الاعتماد على المساعدات الأجنبية ونموذج الدولة العرقية، أصبحت نفسها تحديًا وعائقًا أمام بناء الدولة والأمة معًا.
بدلًا من التعامل الجاد مع هذه التحديات، ركز القادة السياسيون على تقسيم السلطة والاستفادة من موارد الدولة، مما زاد من أعباء الدولة الهشة وأضعف النسيج الاجتماعي الهش. أدى ذلك إلى تسريع انهيار المجتمع والدولة معًا، وهو ما سيتم تناوله في الفصل التالي.
Reference
Braine, B. (1958). The Somali Question. African Affairs, 57(228), 189–199. doi: 10.1093/oxfordjournals.afraf.a094571
Dr Madouni Ali, (2013, 2014), The Limitations of State-Building Requirements in Africa and their Implications for Security and Stability, PhD Thesis at Mohamed Khudair University, Algeria, 2013-2014, p. 314.
Jenkins, R. (2014). Social identity. Routledge.
Gardner, A. (2002). Social identity and the duality of structure in late Roman-period Britain. Journal of Social Archaeology, 2(3), 323-351.
Hall, S. (2015). Cultural Identity and Diaspora. In Colonial discourse and post-colonial theory (pp. 392-403). Routledge.
Abdullahi, A. (2017). Making Sense of Somali History: Volume 1 (Vol. 1). Adonis and Abbey Publishers.
Samatar, A. I., & Samatar, A. I. (2008). Somalis as Africa’s First Democrats: Premier Abdirazak H. Hussein and President Aden A. Osman. Bildhaan: An International Journal of Somali Studies, 2(1), 4.
Mukhtar, M. H. (1989). The Emergence and Role of Political Parties in the Inter-River Region of Somalia from 1947-1960. Ufahamu: A Journal of African Studies, 17(2).
Mohamed Ibrahim Abdi (1977/1978) war, see, The Problem of Western Somalia, op. Cit., P. 99-106.
Abdi Ismail Samatar, (2019, June 7). Africa’s First Democrats: Somalia’s Aden A. Osman and Abdirazak H. Hussein, – book review. Journal of Somali Studies, 6(1), 121–127. https://doi.org/10.31920/2056-5682/2019/v6n1a5
Braine, B. (1958). The Somali Question. African Affairs, 57(228), 189–199. doi: 10.1093/oxfordjournals.afraf.a094571
Mubarak, J. (1996). From bad policy to chaos in Somalia: How an economy fell apart. Bloomsbury Publishing USA.23. World Development Report 1981, Op, cit. p.56.
Metz, Helen Chapin (editor), Somalia- a Country Study, Federal Research Division, Library of Congress, May 1992, 141-142.
Mohamed Ibrahim Abdi, (2016), The Role of the Arab Fund for Economic and Social Development in Support of the Somali Economy, Journal of the University of Mogadishu, Second Issue, p. 76
الباحث
حسن حاجي محمود عبدالله
تعليقات الفيسبوك