بقلم/ د.عبد الرحمن عبد الله (باديو)

لأكثر من 30 عامًا متوالية، كنت منغمسًا في جهود المصالحة والبحث والكتابة وتأليف  الكتب ونشر الأوراق والمقالات باللغات الصومالية والعربية والإنجليزية حول مواضيع مختلفة تتعلق ببلدي الحبيب الصومال. بالإضافة إلى ذلك ، قمت أيضًا بالتدريس والتدريب والتوعية  حول العديد من القضايا ذات الصلة  بالدراسات  الصومالية للجيل الجديد من الصوماليين في الداخل والخارج. ومعظم منشوراتي متاحة على الإنترنت[1]. ركزت أولوياتي خلال هذه السنوات الطويلة على التنمية،  بناء السلام ، والتعليم، ومناصرة قضايا المرأة ، وتنظير المصالحة بين الدولة والمجتمع والتي كانت في حالة تنافر وصراع شبه دائم منذ الاستقلال . وكانت تلك العلاقة العدائية بين الدولة ومجتمعها السبب الرئيسي لانهيار الدولة عام 1991 وظلت دون حل إلى الآن. بعد عودتي من كندا عام 1992، كنت من أوائل النشطاء الذين عملوا على إعادة  إحياء دور  المجتمع المدني في الحياة العامة وأعطيت  الأولوية للتعليم والسلام والمصالحة.  بدأ عملي في مجال السلام والمصالحة رسميًا في عام 1994 عندما تم انتخابي رئيسًا لمجلس المصالحة الصومالية. كان  مجلس المصالحة الصومالية من بين منظومة  المجتمع المدني التي مهدت الطريق لمؤتمر السلام والمصالحة الصومالي في عرتا  جيبوتي  عام 2000.

في هذا المسعى، عملت كعضو في الفريق الفني للمجتمع المدني الذي نظم مؤتمر السلام والمصالحة الصومالي في جيبوتي وولد من رحمه  جمهورية الصومال الثالثة في عام 2000. في السنوات التالية، واصلت جهودي كداعية للمصالحة السياسية حتى قررت أن أقوم بدور  أكثرعمقا  في   الخدمة العامة. وهكذا، أصبحت مرشحا رئاسيا في انتخابات عام 2012، حيث عايشت عن كثب دهاليز  السياسة الصومالية. اكتشفت خلال حملتي الرئاسية طبيعة الثقافة السياسية للنخبة الصومالية ومدى فساد نظام الاختيار/ الانتخابات، و كتبت عنه لاحقًا ورقة.[2]  قمت كل هذا  بصفتي باحثًا وناشطًا في المجتمع المدني وضابطًا كبيرًا سابقًا في الجيش الوطني الصومالي في فترة تماسكه. وما زلت مساهما في  العمل على   استعادة دولة صومالية قادرة على توفير الأمن والخدمات الاجتماعية والازدهار الاقتصادي لمواطنيها مع الحفاظ على تراثها الثقافي والقيم الإسلامية الأصلية .

من ناحية أخرى ، دفعتني دراساتي التاريخية إلى إعادة النظر في التأريخ الصومالي، وفك ألغازه، ومراجعة  طريقة التفكير الصومالين فيما يتعلق بالعلاقة الجدلية بين الدولة والمجتمع. تم تناول التاريخ والسياسة الصومالية بشكل عام من منظور أنثروبولوجي قائم على العشايرية في سلسلة كاملة من الدراسات الصومالية. ساهمت معظم الأدبيات الموجودة في الاستعمار العقلي للشعب الصومالي من خلال نظرية التحديث، التي ترى التقاليد الثقافية للمجتمعات المستعمرة عقبة أمام التنمية.هذا هو السبب في أن النخب والقادة السياسيين في الماضي والحاضر ينتقدون ثقافتنا بعلانية وتبجح ويعتبرونها رموزًا للتخلف وعقبة أمام بناء الدولة. وردا على هذا التشويه، أخذت على عاتقي مهمة إنهاء استعمار عقول الصوماليين من خلال تقديم منظور نقدي جديد للتاريخ الصومالي. وقد تم تجسيد هذا المنظور في كتبي بعنوان “تفسير التاريخ الصومالي” (المجلدان 1 و 2) و “تاريخ الحركة الإسلامية في الصومال”[3].

بعد ما يقرب من عقدين من النشاط الاجتماعي والسياسي، عينني رئيس الوزراء حسن خيري مستشار أول للسلام والمصالحة في عام 2018 إدراكا على خبرتي في هذ المجال الحيوي.  وبالمثل، عينني الرئيس حسن شيخ مستشار أول للشؤون الدستورية في عام 2022. وعلى الرغم من أن ألقابي في ظل النظامين قد تختلف ، فإن مهمتي الحالية ليست كذلك تختلف عن سابقتها حيث  أن الحالي يتناول مصالحة النخب السياسية بينما كان الأول يتعامل المصالحة  بين الدولة والمجتمع. ومهمتي الجديدة هي حصر المواد الخلافية بين الشركاء  الأساسيين في الدستور وكشف التناقض  بين مواده ومواد الدساتير المعمولة في الولايات الأعضاء في الدولة الفيدرالية وأخيرا خلق بيئة مواتية حيث تتفق الدول الأعضاء الفيدرالية والحكومة الفيدرالية للصومال  على القضايا  العالقة في الدستور المؤقت والتي تتطلب إجماعهم وموافقتهم.

نظرًا لمشاركتي المكثفة في عملية بناء الدولة الصومالية وكتاباتي الأكاديمية  في مسيرة الوضع السياسي في فترة العقود الثلاثة الماضية، فقد وجهتني أفكاري إلى ما وراء الشؤون الدستورية ومن تمّ طرح  العديد من الأسئلة التالية. كيف يمكن للصومال تنفيذ دستورها بينما تحكم حركة الشباب أجزاء واسعة من جنوب الصومال؟ ماذا يحدث إذا لم تنجح  الإدارة الحالية في إجراء انتخابات نزيهة وحرة ؟ متى سيحصل المواطنون الصوماليون على حقوقهم في انتخاب ممثليهم إذا استمرت عملية الاختيار الحالية المبنية على تقاسم السلطة بين العشائر؟ و أكثر من ذلك بكثير، كنت مقتنعًا تمامًا بأنه لن يتغير شيء كثيرًا في السياسة الصومالية في نهاية فترة الإدارة الحالية بدون نظام سياسي جديد بين القادة السياسيين. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو  تكرار نموذج الاختيار / الانتخاب لعام 2022 والذي  سيؤدي على الأرجح إلى عدم الاستقرار وتجدد الصراعات. لذلك ، فإن مفترق الطرق الذي يقف عليه الصومال اليوم هو الاختيار بين عملية بناء الدولة من خلال تبني نموذج وفاق  سياسي جديد  أو الاستمرار في الوضع الراهن للعملية  العقيمة  التي ستؤدي في النهاية إلى الصراع، والأرجح إلى العنف.

يتطلب مسار بناء الدولة إرادة سياسية واستقرارًا يتيح إجراء انتخابات نزيهة وحرة  في  جميع مستويات الولايات. يتطلب هذا المشروع أهدافًا واضحة وخطة عمل واقعية للحصول على دعم النخب السياسية والشعب الصومالي مجتمعين . القضايا التالية هي المهام الرئيسية التي يجب تحقيقها خلال فترة الاستقرار لتطبيع السياسة الصومالية:

1. القضاء على حركة الشباب وتحرير الشعب الصومالي من كافة أنحاء الصومال.

 2. استكمال الدستور المؤقت ومواءمة دساتير الدول الأعضاء الفيدرالية مع الدستور الوطني.

3. سن قوانين انتخابية واعتماد نموذج انتخابي مناسب لإجراء انتخابات  شاملة  تبدء بالمديريات وتمرّ في الولايات الأعضاء وضولا إلى  الهيئات الدستورية في الدولة الفيدرالية

4. إنشاء مجالس محلية منتخبة من قبل الناخبين المسجلين في جميع المديريات.

 5. إجراء انتخابات في حيث ينتخب الناخبون المسجلون الدول الأعضاء الفيدرالية أعضاء برلمان.

 6.إجراء انتخابات وطنية  في جميع أنحاء البلاد حيث يتم انتخاب جميع أعضاء البرلمان الفيدرالي من قبل الناخبين المسجلين لكل الدول الأعضاء الفيدرالية على حدة.

لتحقيق القضايا المذكورة أعلاه ، هناك حاجة إلى العديد من الشروط التنظيمية والتقنية والمالية المسبقة. علاوة على ذلك، يجب الاتفاق على الهيكل المناسب والمنسق للدولة على جميع المستويات ونظامها الانتخابي وسنّها كقانون على أرض الواقع. وبالتالي، يجب أن يكون للصومال ثلاثة مستويات فقط من الحكومة: المديريات، الدول الأعضاء الفيدرالية  والدولة الفيدرالية المشتركة بين الولايات بأكملها. علاوة على ذلك، يجب أن ينتخب الشعب الرؤساء ونوابًهم على المستوى الولايات والوطني.  ويجب كذلك مواءمة فترات الانتخابات في الولايات والفيدرالية ، مما يعني أن الصومال يجب أن تجري عمليتين انتخابيتين: انتخاب واحد موحد في الدول الأعضاء الفيدرالية والآخر على المستوى الوطني.

في الختام، يجب معالجة الخروج من المأزق السياسي الصومالي من خلال اتفاق سياسي جديد يؤدي إلى الاستقرار والانتخابات الشعبية. ويجب أن يكون النظام السياسي الجديد جذابًا للجمهور من خلال معاييره وخطته العملية  وشموليته. ويجب أن يتبنى هذا الاتفاق الجديد نظام حكم مناسب غير منحاز لجهة ما دون آخرى، ونموذج انتخابي شفاف يضمن المشاركة الشعبية العامة، ويوضح خريطة جميع الأطر القانونية اللازمة. آمل أن يثير تفكيري نقاشًا بين الطلاب والعلماء والنخب والمثقفين وأصحاب المصلحة السياسيين.


[1]  https://mogadishuuniversity.academia.edu/AbdurahmanAbdullahibaadiyow.

[2] https://ipsed.org/somali-elite-political-culture-conceptions-structures-and-historical-evolution/.

[3]  https://www.amazon.com/s?k=abdurahman+abdullahi&i=stripbooks-intl-ship&crid=3VY70DN7771OY&sprefix=abdurahman+abdullahi%2Cstripbooks-intl-ship%2C309&ref=nb_sb_noss

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.