المبحث الأول – عوامل انهيار الدولة الصومالية

المبحث الثاني – مراحل انهيار الدولة الصومالية

المبحث الثالث – محاولاتإنقاذ الدولة الصومالية

المبحث الرابع – نتائج انهيار الدولة الصومالية

شكل انهيار الدولة الصومالية صدمة للصوماليين وللعالم، فلم تكن الدكتاتورية ونتائجها الحتمية المتمثلة في الحرب الأهلية ونشأة الجبهات المسلحة والإطاحة بنظام سياد بري أمرًا مستغربًا أو مفاجأ، حيث كانت القارة الافريقية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات مليئة بالصراعات والحروب الاهلية، وتمت الإطاحة في نهاية الثمانينيات والنصف الأول من عقد التسعينيات العديد من الأنظمة الأفريقية  من خلال الحرب الاهلية والصراع المسلح، ولكن الحالة الصومالية اشتدت حيرتها بقوة بانهيار الدولة الكامل واتساع نطاق الفوضى، وفشل الجبهات المعارضة في استعادة زمام الحكم والسلطة في البلاد من جديد، وحجم تبعات الانهيار وتنائجه الكارثية.

وعلى هذا الأساس سوف نتناول  قضية انهيار الدولة الصومالية من خلال أربعة مباحث، ينتاول فيها :

المبحث الأول عوامل انهيار الدولة الصومالية، وهو أمر شائك، تناول فيه أقلام الباحثين الصوماليين والغربيين، من خلال زوايا مختلفة ، وقدم فيه الكثير من الأسباب الداخلية والخارجية، والعوامل ذات الجذور التاريخية وأخرى مرتبطة بأسلوب إدارة النخبة السياسية الصومالية للدولة خلال العقود الثلاث من عمر الدولة.

ويتناول المبحث الثاني مراحل انهيار الدولة الصومالية، وتختلف وجهات نظر الباحثين حول نقطة بداية الإنهيار، ولكن الكثير منهم يتفقون في أن الدولة الصومالية ولدت وهي تعاني من مشكلات مزمنة، ونشأت الدولة الصومالية وهي دولة ضعيفة ومفككة وبتعبير آخر دولة مشوه، واتجهت نحو الهبوط والفشل ثم انتهت إلى الانهيار.

ويستعرض المبحث الثالث محاولات إنقاد الدولة ،سواء كانت محاولات محلية من النخبة السياسية الصومالية أو من المحيط الإقليمي والدولي، وهي وإن كانت تلك المبادرات متواضعة ولم تنجح ولكنها تستحق الذكر والتسجيل لكونها صوت الحكمة والتعقل في وقت كانت لغة استخدام القوة والسلاح من طرفي الصراع هي السائدة آنذاك في الساحة، ولكون تلك المبادرات بمثابة إنذار مبكر لما يمكن أن تصل إليه الأمور، وكونها أيضا تبرئة الذمة للقيادات الصومالية المدنية الوطنية منها والإسلامية التي لم تكن طرفا في الحرب الأهلية وفي تدمير مكتسبات الشعب الصومالي خلال مرحلتي الكفاح الوطني ضد الاستعمار والاستقلال.

ويتحدث  المبحث الرابع والأخيرنتائج الحرب الأهلية وانهيار الدولة بالكامل، وتشمل نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية. وهي تنائج كارثية  يصعب على الشعب الصومالي إعادة لملمة جراحها واستعادة زمام الدولة من جديد. وسوف نركز في هذا المبحث النتائج الفورية المباشرة وقريبة المدى التي نشأت من انهيار الدولة وخاصة خلال السنوات الأولى للحرب الأهلية.

 

المبحث الأول – عوامل انهيار الدولة الصومالية

جاء الانهيار الكلي للدولة الصومالية بعد أكثرمن ثلاث عقود من عمرها، وبعد عشر سنوات عاشتها الدولة تحت الحكم المدني (1960-1969) وأكثر من عشرين عامًا تحت الحكم العسكري (1969-1991). ولم يكن الانهيار قد جاءت مرة واحدة، بل جاء على شكل تراكمي عبر سلسلة من الانهيارات الجزئية المتتالية تصاعدت وتيرتها في نهاية الثمانينيات حيث شهدت عامي 1988-1989 أحداث مؤلمة منها قصف المدن الشمالية وتشريد أهلها وهو أهم حدث دولة تحارب شعبها وتشردها وثورة مقديشو بعد مقتل سلفاتورى كولمبو ممثل الفاتكان في الصومال وإعلان الدولة جائزة عشرة ملايين شلن لمن يدلى بالمعلومات عن القاتل مما أثار سخط الجماهير العامة والخروج بالمظاهرات العارمة وإعتقال العلماء والسياسيين ،حتى انتهت بالانهيار الكامل الذي وصل ذروته في السادس والعشرين من يناير عام 1991، لحظة خروج الرئيس محمد سياد برى من القصر الرئاسي وسيطرة الثورة الشعبية المسلحة التي اندلعتفي مقديشو. هذه الدولة التي انهارت كان شعبها نموذجًا للتجانس الثقافي واللغوي والديني في أفريقيا، كما أنها كانت أولى الديمقراطيات الأفريقية خلال العقد الأول بعد الاستقلال تحت الحكم المدني()، حيث تم تداول السلطة فيها سلميًا، وجرت فيها انتخابات ديمقراطية اتسمت بقدر كبير من النزاهة والحرية.

فعلى الرغم من تحقيق الصوماليين تلك الديمقراطية في وقت مبكر من مرحلة ما بعد الاستعمار، وعلى الرغم من تميزهم وتجانسهم وسعيهم لوحدة الصومال الكبير،ومعارضتهم الشديدة لحدود دولة ما بعد الاستعمار-فقد جرى عكس توقعات الاستقرار والوحدة الوطنية والتماسك الداخلي، وهو اندلاع  الحرب الأهلية التي أودت الدولة الصومالية إلى الانهيار، بل إن تلك الحرب الأهلية لم تكن كغيرها من أنماط الحروب الأهلية الأفريقية التي سادت القارة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واختلفت عنها في العديد من السمات،وذلك من حيث درجة العنف والانتشار، ومن حيث نتائجها الكارثية والتي نتج عنها الانهيار الكامل والغياب الكلي لمظاهر الدولة،واستمرارها وطول المدة التي عاش بها الصومال تحت غياب الدولة، وفشل الصوماليين والمجتمع الدولي في وقفها وفي استعادة الأمن والاستقرار وسلطة الدولة.واختلفت عن الحروب الأهلية الأفريقية الأخرى كذلك من حيث حجم الدمار الذي خلفته، وانعكاساتها الشديدة على الصومال وعلى المحيط الاقليمي والدولي بصفة عامة.

ونتيجة لتلك الحالة من التعقيد التي تميّزت بها الأزمة الصومالية عن غيرها من الأزمات الأفريقية – كَثُرت الدراسات والبحوث التي تناولتها، وتعددت وجهات النظر حول عوامل انهيار الدولة الصومالية. فينما ركَّز البعض على عامل أو أكثر من تلك العوامل، ركّز الآخرون على عوامل أخرى. ويرى آخرون بأن عملية انهيار الدولة الصومالية لا يمكن إرجاعه إلى عامل أو عاملين فقط، وإنما هو نتيجة  تضافر أكثر من عامل. وعلى هذا الأساس تباينت التصنيفات، وتعددت عمليات إعادة فرز تلك العوامل، ويلخص البروفسور أحمد سمتر تلك العوامل الرئيسة إلى ثلاث عوامل، هي: ” الهزيمة في الحرب ضد إثيوبيا، والآداءالإقتصادي المنخفض ، وتوقف المساعدات ” ().ويركز ديفيد روسونعلى أن انهيار الدولة الصومالية في الأساس يعود إلى العوامل الداخلية،وأنالصوماليين هم الذين يتحملون مسؤولية انهيار دولتهم،ملخصًا تلك الأسباب إلى العوامل الثلاثة :المعادلات الداخلية لتنافس النخب،وعسكرة مؤسّسات الدولة، وطغيان النظام”().

ويمكن القول بأن عوامل انهيار الدولة الصومالية تعود كذلك إلى بعض الأسس التي قامت عليها الدولة الصومالية نفسها عند تأسيسها، والتي تحدثنا عنها في الفصل الثالث، وخصوصا الأسس الثلاثة المتمثلة في:الدولة الإثنية، والاعتماد على المساعدات الخارجية، والمحاصصة العشائرية.فقد مثّلت تلك الأسس عبئًا كبيرًا على الدولة، وحملت في طياتها أيضا عناصر الدمار، وكان لها تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على وجود الدولة.وفشلت الدولة أيضا بفشل النخبة الصومالية في معالجة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها بعد الاستقلال، والتي تحدثنا عنها في الفصل الرابع، ومن ثم انهارت الدولة نتيجة لهشاشة الأسسس التي قامت عليها في الأساس ولفشل النخبة السياسية في معالجة التحديات الجسيمة التي واجهتها الدولة.ويمكن كذلك تقسيم عوامل الانهيار إلى عوامل داخلية مرتبطة بالصوماليين وأخرى خارجية مرتبط بالتأثير الخارجي.

ومن بين هؤلاء الباحثين أيضا الذين يرون بأن الانهيار يعود إلى نطاق واسع من العوامل المختلفة والمتضافرة، ومن ثم بذّلوا جهودًا جبارة في إعادة تصنيف تلك العوامل الدكتور عبد الرحمن معلم عبد الله باديو الذي جمع تلك العوامل بثلاث مجموعات رئيسة، المجموعة الأولى هي العوامل الجذرية أو الأصلية، وتشمل (التقسيم الاستعماري للصومال، وتفكك المجتمع الصومالية وتشكيله إلى دويلات عشائرية وعدم قدرته على تشكيل حكم مركزي قبل الاستعمار، وضعف التنمية الاقتصادية خلال مرحلة إعداد الصومال لتسلم زمام الدولة، وغياب القوة البشرية المدرَبة).أما المجموعة الثانية فهي العوامل العملياتية أو الميدانية ( وتضم سياسة الدولة تجاه وحدة الإقاليم الصومالية ، وإفرازات الحربالباردة ، وضعف قدرات القيادات الوطنية، والتنمية الاقتصادية الضعيفة،والدكتاتورية العسكرية وانحلال القيم الاجتماعية والإسلامية). وتتمثل المجموعة الثالثة العوامل المباشرة (وهي: الحرب مع أثيوبيا وهزيمة الجيشالصومالي ، ونهاية الحرب الباردة وقطع االمساعدات الخارجية، واستمرارالدكتاتورية العسكرية القائمة على العشائرية ،وتشكل الفصائل المسلحة ،وغياب رعاةٍ دوليين)().

ويلخص الدكتور عبد الرحمن باديو الأسباب الرئیسیة وراء انھیار الدولةالصومالیة بعد استعراضه لطيف واسع من الآراء على ثمانية عوامل رئيسة أدت إلى انهيار الدولة الصومالية، وهي: نھایة الحرب الباردة وتأثيرها في تناقصالمساعدات الخارجیة ، والتقسيم الاستعماری للشعب الصومالي ، وسياسية الوحدة الصومالیة والحرب مع أثیوبیا ، والبدائیة والعشائریة السیاسیة الطاغیة، والفساد الأخلاقي والانحلال الثقافي ،وشحّ الموارد ، وفشل قادة الصومال فيإعطاء الأھمیة للأھداف الرئیسیة للدولة،وأخيرًا العوامل الانتقائیة والتي تتمثل في مجموعة مركبة من العوامل التي لا يمكن تفكيكها().

ونظرا لتشابك الموضوع وتعدد الأسباب فإن الباحث اختار أن  يلخص تلك الأسباب بالعوامل التالية التي سوف يتم تناولها بشيئ من التفصيل:

 

(أ) تبعات الموقع الإستراتيجي (الإنتقام الجغرافي): مما لا شك فيه أن موقع الصومال الإستراتيجي كان ومايزال له أعظم الأثر في بنائه السياسي في الماضي والحاضر، وأن هذا الموقع المهم قد جني عليه وعلى أبنائه، إذ إنه في النهاية أدي الى تمزيق هذا القطر المنكوب() “إن الخصائص الإستراتيجية لموقع الصومال ظلت على مرّ التاريخ عامل جذب لقوي مختلفة انغمست في منافسات وصراعات ومنازعات في إطار سعي كل منها الى تحقيق أهداف استراتيجية وعسكرية لبلادها()” وهذا الموقع الفريد الذي يتميز به الصومال  متاخم لكل من منطقة البحر الأحمر  والمحيط الهندي، كما يقع نقطة إلتقاءقارتي أفريقيا وآسيا، ويشرف على البحر الأحمر الذى يربط البحر العربي والمحيط الهندي بالبحر المتوسط بواسطة مضيق باب المندب،كما أنه يربط ما بين أكبر حقول النفط في الخليج وأكبر مستهلك للنفط في غرب أوروبا،مماجعلته محل أطماع القوي الغربية وأحد أسباب استعماره. وهذه الأهمية لموقع الصومال تظهر بجلاء في تلك التدخلات الأجنبية للنيل من أراضيه منذ فجر التاريخ والتى أدت في النهاية الى تمزيقه().

وكان الصومال أيضا – نظرًا لموقعه الجغرافي – مسرحًا للصراع بين الهوية العربية والهوية الأفريقية، وهو أيضًا المكان الذى رُسمت فيه الحدود الإسلامية المسيحية مع انتشار الإسلام في الصومال ومحافظة إثيوبيا ثقافتها المسيحية().ولقد شكل هذا الموقع نقمة على الشعب الصومالى على مرّ العصور والتاريخ، وأدركت القوي الدولية الكبري ما لوادي النيل والبحر الأحمر من أهمية في السيطرة السياسية والاقتصادية العالمية. وفي القرن التاسع عشر كان ذلك الإدارك وما نجم عنه من تنافس عاملًا أساسيًا في تقسيم القرن الأفريقي، مع كل ما يترتب على ذلك التقسيم محليًا وإقليميًا بعد ذلك ()“. وكانت تبعات الموقع الجغرافي وأهميته وصراع القوى الدولية والإقليمية عليه عاملًا أساسيًا في توريط الصومال في تلك الصراعات التي تفوق قدرات قادته في سباحة تلك الأمواج، ومن ثم ساهمت تبعات الموقع الجغرافي في انهيار الدولة الصومالية.

 

(ب) الإرث الإستعماري: إن الوضعية التى آلت اليها الصومال منذ نهاية الثمانينيات لم تكن وليدة اللحظة، وإنما كانت نتيجة تراكمات تاريخية تعود الى فترتي الاستعمار والإستقلال والتى تجلت عبر ظواهر عدة تحكمت في تطور الأحداث ودفعتها إلى ما آلت إليها من دمار وخراب وأخيرًا انهيار الدولة الصومالية” ().  إن من بين أهم العوامل التى أدت الى إنهيار الدولة الصومالية مشكلة الحدود ” والتى تعتبر من أبرز مخلفات الإستعمار،حيث وضع الإستعمار هذه الحدود السياسية حسب مصالحه دون مراعات لمصالح الشعوب والقبائل ودون إعتبار للتاريخ()“. ولم يقتصر التقسيم على الحدود والخرائط بل شمل على هوية المجتمع الصومالى ومعتقداته والإستهداف على لغته ودينه. وعلى أساس مشكلة الحدود التي هي الموروث الاستعماري، ولتصحيح هذا الوضع خاضت الصومال عدة حروب ضد إثيوبيا من أجل تغييرها خلال أعوام 1963/1964 و 1977/1978م،  وكلفت هذه الحروب الصومال الكثير من الخسائر وكان ثمنها الدولة الصومالية كلها، ولم يتمكن الصومال من الخروج تلك الدوامة التي وضعها الإرث الاستعماري.

 

(ج) الحرب الباردة والمساعدات الاقتصادية: لقد وضعت القوي الكبري القرن الإفريقي في حساباتها الجيو-استرايجية أثناء الحرب البادة، وتنافست في الحصول على الممرَّرات المائية المهمة مثل باب المندب ومضيق هرمز والبحر الأحمر. وكان الصومال أول بلد تتجه الأنظار اليه،حيث” تتمتع منطقة القرن الإفريقي بأهمية استراتيجية كبيرة، وكانت محل تنافس بين الدول الكبري في مرحلة الحرب الباردة()“.وفي هذا يقول زيغنيو بريجنسكي  رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر معلقًا على مدى عمق الأزمة بين القوتين العظميين في القرن الإفريقي “إنفراج يقبع مدفونًا في رمال أوغادين ()”  .

أما المساعدات فكانت مرتبطة بالحرب الباردة والتنافس بين القوتين العظميين وأهمية هذا الموقع ” فقد عرضت الولايات المتحدة للصومال عشرة ملايين دولار وتدريب 5000-6000 جندي، ولكن عرض الإتحاد السوفيتي بتدريب 20000حندي تفوق عرض الولايات المتحدة الأمريكية()“، ومن ثم استسلم الصومال أمام هذا الإغراء وقبل العرض السوفييتي الذى كان يرقى إلى مستوى طموحاتها العسكرية لتحقيق أهدافها في تحرير الصومال الكبير.  وعندما وضعت  الحرب الباردة أوزارها في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن من المستغرب أن تنهار الأنظمة التي كانت تعتمد على الاميتازات التي حصلتها من جراء ظروف الحرب الباردة ومن بينها دول القرن الإفريقي والصومال على وجه الخصوص، حيث تراجعت نهاية العقد دعم القوتين العظيمتين لتلك الأنظمة، مما كان له أثره في انهيار تلك الدولة وأبرزها الصومال()، حيث  كانت طبيعة دولة الصومال يمكن وصفها بأنها دولة كانت تستمد قوة دفعها من الخارج، وليس من الداخل مثلها في ذلك مثل دولة ما بعد الاستعمار().

 

(د) سياسة وحدة الصومال الكبير والصراع مع دول الجوار: الإرث الاستعماري الذي خلفه التقسيم والإجحاف الذي شعره الشعب الصومالي  ولَّدا شعورًا قوميًا لدى الصوماليين حول حتمية البحث عن الوحدة والخوض في معارك مكّلفة لتوحيد الصومال، وكان العلم الصومالي ذو النجوم الخمسة الذي انشأ خلال مرحلة إعداد الصومال للاستقلال مؤشرًا قويًا للطموحات القومية للشعب الصومالي وكان يمثل الخط الإستراتيجي الذى يرسم معالم الدولة الصومالية الجديدة، ويحدد توجهها القومي الذى يبحث عن الصومال الكبير. وكان استقلال الشطرين عام 1960م عامل تحفيز آخر للبحث عن البقية الباقية دون النظر إلى العواقب التى تترتب عن هذا التصرف بما فيها ضياع الجمهورية الجديدة الفتية التى لا تملك موارد بشرية واقتصادية، ولا تملك مؤسسات فاعلة ولا قيادة تتمتع بالمؤهلات العلمية التى تواكب مع السياسية العالمية.لقد كانت الدولة الصومالية ضحية مشروع الصومال الكبير الذي تحملته.” وكان توجه الصومال نحو توحيد الصوماليين بمثابة مقاومة عكسية ضد ما اعتبرته محاولة مستمرة لاستلاب القومية الصومالية من عناصر حيويتها ( الدين ، واللغة) لتصبح قومية مصطنعة  أسيرة للجغرافيا ومعزولة عن منطق التاريخ().

وكان لسياسة الصومال تجاه  توحيد الصومال الكبير والصراع مع دول الجوار – وخصوصا إثيوبيا- تكلفته الباهظة ، ففي عام 1964م أي بعد اربع سنوات من الاستقلال خاض الصومال أولى المواجهات مع أثيوبيا، وبعد الإنقلابالعسكري عام 1969 وتوجه الصومال نحو الاتحاد السوفيتي وبناء جيش قوي بمساعدة السوفيت، دخل الصومال حربًا لم يدرس عواقبها عليه وعلى المنطقة عمومًا، وما ينجم عنه من كوارث أدت في النهاية إلى تغير الخريطة السياسية في القرن الإفريقي وتحول الصراع الى صراع دولى بعد طرد الصوماليين المستشارين السوفيتيت، حيث القي السوفييت كامل ثقله في تحالفه مع كوبا وألمانيا الشرقة واليمن الجنوبي لإلحاق الهزيمة بالجيش الصومالى، وهو ماحدث بالفعل. ونتيجة لذلك فقد شكلت الحرب القشة التى قصمت ظهر البعير، وكانت أحد أهم العوامل التى تسببت في انهيار الدولة الصومالية .تصور سياد بري أن الروس علي إستعداد لمساعدته في تحقيق طموحاته …. وأن الوجود الروسي في الصومال أزعج الأمريكيين إزعاجا كبيرا ، كان كل ما مر كيسنجر بالقاهرة يقدم دائما صورة لميناء بربره إلتقطها القمر الصناعي ، يظهر فيها ما كان يزعم من أن الروس قد حصلوا علي تسهيلات بحرية .

وأكتشف سياد بري أنه ضحية المساومات بين القوتين الأعظم التي تقضي بأن يكف الروس عن التدخل في المشلكة الروديسية شريطة أن يكف الأمريكيون عن التدخل في أوغادين.

ويعتبر الجبهات المسلحة الصومالية من أهم إفرازات الهزيمة في الحرب مع إيثوبيا وازدياد البطش على بعض القبائل(خصوصًا عشيرتي مجيرتين وإسحاق ) التى أبدت توجسها من توجهات النطام الذى بدأ يستهدفها كما استهدف بعض الحركات والمنظمات الإسلامية.ومثّل ذلك مكسبا كبيراً للحكومة الإيثوبية التي لم تسمح لها الفرصة من قبل لكسب معارضين صوماليين مستعدين للتعاون معها. وحيث أنه لم تكن في ذلك الوقت رؤية وطنية واضحة لدى المعارضة لإعداد البديل السياسي للنظام فقد قام بعض الضباط الكبار في الجيش الصومالي بتأسيس تلك الجبهات،وذلك عقب فشل الإنقلاب الذي قام به بعض الضباط وهروبهم بعضهم إلى ايثوبيا ، فكانت النتيجة الحرب الأهلية المدمرة  التي أدت إلى انهيار الدولة الصومالية.

 

(هــ)الفساد السياسي: يعود الفساد السياسي الذي اتسمت بها سلوك النخبة الصومالية قبل الاستقلال وإلى مرحلة الوصاية الدولية على الإقليم الجنوبي، حينما بدأت النخبة السياسية تمارس السلطة التي تم تسليم جزء منها للصوماليين من قبل السلطة الإيطالية الوصية، وذلك عبر الأحزاب السياسية المختلفة التوجهات، وبدأت النخبة تستخدم العشائرية السياسية كآلية لكسب الأصوات خلال المعارك الانتخابية،وانشغلت الأحزاب السياسية منذ وقت مبكر من تأسيسها بالصراع على السلطة ونهب المال العام والثراء السريع وسوء استخدام السلطة وغير ذلك من السلوكيات التي جعلت الشعب الصومالي ينصرف عن التجربة الديمقراطية الوليدة وعن آماله في الدولة الصومالية، ومن ثم أصبحت العملية السياسية والديمقراطية مشوه وفارغة من المضمون الذي يعود النفع لعامة الشعب.

ونيجة لذلك فقدت الأحزاب السياسية  خلال فترة الحكم المدني (1960-1969) اهتمام الشعب وذلك على الرغم من أن  البضاعة الوحيدة التى كانت تروجها  لكسب الأنصار باتت شعار توحيد الصومال الكبير،كما أن الكثير من تلك الأحزاب تلاشت بعد الإستقلال لخلوها من مضمون إجتماعي تنادي به وتناضل من أجله().وبالإضافة إلى ذلك  فقد انضم الكثير من أعضاء الأحزاب السياسية إلى حزب الأغلبية الحاكم في تلك الفترة (حزب وحدة الشباب الصومالى) المسيطر للحكومة للحصول على المنفعة والمناصب فقط، وخرجت المصالح الوطنية من الساحة السياسية، وساد منطق المنفعة والمصالح الشخصية.ولقد اندفعت الأحزاب للقتال على السلطة والحكم وتركوا الشعب وانحرفوا عن آماله وازدادوا من استغلال النعرات القبلية في ظل شعارات ديمقراطية فارغة،مما أفسح المجال لقيام القوات المسلحة بالإستيلاء على مقاليد السلطة عام 1969 بعد عقد من الحكم المدني الديمقراطي بترحيب من عامة الشعب الصومالي().مما ساهم في وأد التجربة الديمقراطية الوليدة التي كانت أحد أسس بناء الدولة الصومالية ووحدة الاقليمين الشمالي والجنوبي.

 

(و) الإنقلاب العسكري: جاء الانقلاب العسكري الذي قام به القائد العام للقوات المسلحة آنذاك الجنرال محمد سياد برى في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1969م بعد فشل النخبة السياسية المدنية في إدارة الدولة الصومالية، وبعد أن وصل الشعب الصومالي لحظة اليأس من تحقيق طموحاته. وعلى هذا الأساس بدت تلك الخطوة التي قام بها الجيش على أنها بمثابة انقاذ للدولة الصومالية من الانهيار بعد أن وصلت إلى طريق مسدود. ولكن الحقيقة التي توصل إليها الكثيرون أن تلك الخطوة وان كانت قد أنقذت الدولة مرحليًا إلا أنها كانت هي الأخرى اتجهت بالبلاد إلى طريق آخر انتهى في النهاية إلى الانهيار. وقد تساءل العديد من المثقفين الصوماليين بعد فشل النخبة العسكرية إنه إذا كان الجيش هو الموسسة الوحيدة التى انقذت البلاد  من الإنهيار في ذلك الوقت، فمن الذى ينقذ البلاد من الجيش نفسه في هذه المرة؟

وعلى هذا يعتبر الإنقلاب الذي قاد البلاد نحو حكم عسكري مدمر أحد أهم عوامل انهيار الدولة الصومالية،  حيث قضي على الأسس الذى قامت عليه الدولة الصومالية وأهمها (الأساس الديمقراطي) الذى كان يضمن الحريات الأساسية وحل الخلافات الصومالية عبر الحوار والمصالحة، ومشاركة القيادات الاجتماعية بالعملية السياسية. ولم يدمر الحكم العسكري أسس الدولة الصومالية بل إنه دمر أيضا الأسس الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع الصومالي، وذلك عبر استهدافه للإسلام والعشيرة ركني الهوية الصومالية، ومحاولة إحلال المبادئ الإشتراكية العلمية في مجتمع مسلم محافظ  محلها، والحرب كذلك على نظام العشيرة التي يقوم عليه البناء الاجتماعي الصومالي، وما يترتب على ذلك من القضاء على القيادة الاجتماعية التقليدية للشعب المتمثلة في علماء الشريعة وزعماء العشائر.لقد أحدث النظام العسكري تغيرات جذرية سلبية ساهمت في تراكم الأزمات الصومالية منذ البداية، وأهمها الإصطدامالمباشر مع عقيدة الشعب الصومالي ومع الأعراف والتقاليد والنظام الاجتماعي، ولم يضعوا في حسبانهم أنهم سيواجهون الشعب الصومالي برمته، لأنهم دخلوا في قضية لم يجرأ عليها حتى القوي الغربية التى استعمرت الصومال أن تدخلها. ولم يستفد العسكر تجارب الحكومات المدنية التي سبقتهم في كيفية التعامل مع العشائر بل سلكوا مسلكا أشد خطورة من السابق، عند ما أعلنو “دفن العشائرية” أمام الجميع، فتسربت روحها الى الجميع وأصابت الحمة العشائرية الجميع، فقفزت الى الواجهة.

فبالنسبة إلى قضية العشائرية ، فقد أدت تجربة الحكم المدني منذ الاستقلال وتوحيد الشمال والجنوب في يوليو 1960 ، إلى عدة تحولات مهمة لم يكن مقدورها الحيلولة دون بروز الاحتماء بالنظام القبلي، وخلع الشعور بالمصلحة العامة للدفاع عن المصالح الفئوية العشائرية الضيقة().وتميزت فترة حكم سياد برى بإحياء العامل العشائري، إضافة لما ساد هذه الفترة من زيف أيديولوجي من خلال ادعاء تبني الاشتراكية العلمية وما تعنيه من سياسات تتعلق برأسمالية الدولة، في إطار نظام أوتوقراطى شمولي، تضاءلت فيه فرص المشاركة الشعبية في العملية السياسية. وقد دعم دستور عام 1979 من اتجاه شخصنة السلطة من خلال جمع سياد برى بين منصب رئيس الدولة، والقائد الأعلى للجيش، ورئيس المجلس القضائي، ورئيس مجلس الوزراء، وسكرتير عام الحزب الواحد (الحزب الاشتراكي). كما منحه التعديل الدستوري الذي أجري في عام 1980 سلطات إضافية دون الرجوع إلى البرلمان أو الجهاز التنفيذي أو مجلس القضاء،إضافة إلى هدر وتبديد القدرات والإمكانيات الصومالية، في حرب الأوجادين (1977/ 1978)، مما أدى إلى التعجيل ببدايات تآكل الدولة الصومالية()، ومن ثم انهيارها فيما بعد.

إن القفزة التي قام بها النظام العسكري على العقيدة الإسلامية للمجتمع الصومالى وقفزته أيضا تركيبته الاجتماعية للتوفيق بين متطلبات الإشتراكيةالعلمية السوفيتية والواقع الصومالى، والعنف الشديد الذي مارسه ضد المعارضين وغيرها من السياسات الخاطئة قد أوقعته في العديد من الحفر التي كان في غني هنا. وعموما فـ”إن الأحزاب اليبرالية التى تكونت في كل مكان تقريبا خارج الغرب ، وبخاصة داخل النظم المحافظة في العالم الإسلامي ، لم تنجح في تسريب أيديولوجيتها داخل مختلف طبقات الشعب، مثلها في تلك الأحزاب ذات الإتجاهات الماركيسية التى فشلت أيضا في اليمن الجنوبي سابقًا وفي أنجولا كما في القرن الإفريقي ()“. إن الحزب الإشتراكيالصومالى الذي أنشأه النظام العسكري مثّل أحد معاول الهدم للبنية الإجتماعية والعقدية للمجتمع الصومالي، وقضي على جميع الأسس والمقومات التي بني عليها المجتمع الصومالي.

 

(ز) شّح الموارد الإقتصادية في البلاد:  إن من أهم عوامل انهيار الدولة الصومالية، عامل شح الموارد الاقتصادية الصومالية، وعدم تنميتها خلال عهدي الاستعمار والاستقلال. فخلال مرحلة الوصاية الإيطالية(1950-1960) والتي كان من أهم مهام الإدارة الإيطالية تنمية الموارد الاقتصادية للإقليم، لم تنجح إيطاليا بعملية التنمية للإقليم وإيصال الإقليم إلى مرحلة الاعتماد على نفسه، وسلمت إيطاليا للصوماليين دولة لا تستطيع دفع رواتب الموظفين وتعاني من مشاكل حدودية للدول المجاور، ولم تدرب الكوادر الصومالية لإدارة الدولة الحديثة. وعلى هذا الأساس فقد أصبح على المجتمع الدولي تقديم الدعم للدولة الصومالية، ومن ثم  “ ضخت ايطاليا وبريطانيا ما يقرب 31% من ميزانية الدولة في السنوات الثلاثة الأولى التي أعقبت الإستقلال، فكانت جميع صناديق التنمية بلا استثناء إما قروضًا أو منحًا من دول غربية أو من المعسكر الشرقي()“. ولم يكن هناك ولا طبيب صومالى واحد أو صيدلي أو مهندس أو معلم الثانوية في كل الصومال. وفى هذه الدولة التى تقع تحت خط الفقر عند تأسيسها لم تحدد أولوياتها الإقتصادية والتعليمية ولإجتماعية “ومن المفارقاتأن قادة الدولة الصومالية -وهم يعرفون بالمقدرات القليلة التى تعاني منها بلادهم على الصعيد البشري والمادي – جعلوا أولوياتهم تحقيق مشروع الصومال الكبير فكرسوا المصادر الشحيحة لهذا الهدف()” .

المبحث الثاني- مراحل انهيار الدولة الصومالية

 

عند الحديث عن المراحل التي مرّت عليها عملية انهيار الدولة الصومالية نجد أن المؤرخين يختلفون حول بداية عملية انهيار الدولة الصومالية، ولكنهم مع ذلك يتفق الكثير منهم على أن الدولة الصومالية ولدت وهي ضعيفة. وانطلاقا من ذلك فإن الباحث رأى أن يقسم مراحل الانهيار إلى خمس مراحل هي:

المرحلة الأولى (1960-1969) و تبدأ من الاستقلال وتنتهي بإنهاء الحكم المدني من قبل الانقلاب العسكري.

المرحلة الثانية (1969-1978) وهي المرحلة التي تبدأ من الانقلاب العسكري وحتي هزيمة الصومال في الحرب ضد إثيوبيا عام 1978.

المرحلة الثالثة (1978-1988) وتبدأ من هزيمة الصومال في الحرب الصومالية الإثيوبية وتنتهي باندلاع المعارك بين النظام العسكري والحركة الوطنية الصومالية المعارضة في الشمال وخاصة في مدينتي هرجيسا وبرعوعام 1988م.

المرحلة الرابعة (1988-1990) وهي مرحلة انتشار المعارك بين النظام والجبهات المعارضة المدعومة من إثيوبيا في داخل الأراضي الصومالية والتي تسببت في تدمير الحياة في معظم محافظات البلاد وتنتهي بأواخر عام 1990، حيث أصبحت مناطق الشمال والوسط والجنوب العربي مناطق عمليات.

المرحلة الخامسة (1990-1991) وهي المرحلة الأخيرة من الانهيار والتي تبدأ من اندلاع المقاومة الشعبية المسلحة  بين النظام ومؤيدي المؤتمر الصومالي الموحد المدعوم من قبائل الهوية، والتي انتهت بهروب الرئيس محمد سياد برى من العاصمة إلى الجنوب.

 

المرحلة الأولى (1960-1969): يمكن القول بأن الدولة الصومالية ولدت في وسط الأزمات والمشكلات التي كانت تجعل  قابليتها للاستمرار أمر في غاية الصعوبة، وولدت الدولة وهي ضعيفة، ومن ثم ففي لحظة الاستقلال التي تسلم فيها الصوماليون زمام الحكم في دولتهم المستقلة، وبدأو فيها عملية البناء، كانت عوامل الهدم والانهيار جارية جنبًا إلى جنب مع محاولات البناء والإنقاذ، وفشل قادة الصومال في تغيير المعادلة وتحويل مسار بناء الدولة نحو اتجاه الصعود، وعلى هذا الأساس تبدأ المرحلة الأولى من مراحل الانهيار باستقلال الصومال وتنتهي بإنهاء الحكم المدني من قبل الانقلاب العسكري. ويعد عملية الفساد المالي والإداري والصراع الشديد على السلطة بين الأحزاب السياسية واستخدام الولاء العشائري لكسب التأييد ونهب الأموال العامة، وتسليعالسياسية، تعد تلك الأعمال معاول هدم للدولة في تلك الفترة من الحكم المدني.

ففي تلك المرحلة التي كانت الدولة في حاجة ماسة إلى بناء المؤسسات وبناء ثقة الشعب الصومالي بالدولة، والتركيز على تحقيق بعض طموحاته السياسية والبحث عن الموارد المالية وإصلاح الهيكل الاقتصادي للدولة الناشئة، مع كل هذا فقد توجهت الدولة الحديثة الى مشروع الصومال الكبير وخاضت حروبًا لم يكن بمقدورها تحمل تكلفتها البشرية الاقتصادية وخصوصا بين عامي 1961 إلى 1964م ، ودخلت الدولة في هذا الصراع المكلِّف في وقت لم تكن تستطيع  دفع رواتب الموظفين بمفردها دون مساعدة خارجية، فضلا عن الحصول على ميزانية لتدريب أفراد الجيش ورفع كفاءته لخوض الحروب، وذلك بدلا من الإهتمام في بناء هياكل الدولة الفتية، ووضع خطط للتنمية الإقتصادية والتحرر التدريجي من التبعية الإستعمارية، وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين، وتجاوز صعوبة الإندماج بين الإقليمين، بالإضافة إلى وجود المشكلات السياسية الداخلية التي تعاني منها الدولة، وإذا كانت تلك المرحلة قد بدأت مع نشوة الاستقلال والوحدة التي تحققت، وبسقف طموحات مرتفع، فإن نهايتها شهدت تزوير الانتخابات واغتيال رئيس الجمهورية ووصول الدولة إلى طريق مسدود.كل هذه كانت عوامل من الأسباب التي عجلت الإنقلاب العسكري الإطاحة بالحكومة المدنية .

 

المرحلة الثانية( 1969-1978): تبدأ المرحلة الثانية من الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء محمد سياد برى القائد العام للجيش في الحادي والعشرين من أكتوبر 1969، وتنتهي بهزيمة الصومال في الحرب ضد إثيوبيا عام 1978وهي ايضا تسع سنوات مثل عمر الحكومة المدنية ومثلت عملية اغتيال رئيس الدولة عبد الرشيد علي شرمأركي في الخامس عشر من أكتوبر 1969، وحالة الغموض التي دخلت العملية السياسية في البلاد، والفراغ الذي شهدته السلطة- عملية تمهيدية استغل منها قادة الجيش للاستيلاء على السلطة. وكان من العمليات التي أفضت إلى إضعاف الدولة في هذه المرحلة ووضع الدولة في مواجهة المجتمع الصومالى: تدخل النظام العسكري في معتقدات الشعب الصومالى وعاداته وتقاليده الإجتماعية (من خلال منع ألقاب شيوخ القبائل ،والقبيلة)، ثم إنكار القران الكريم وإعدام العلماء بعد رفضهم النظام الشيوعي الصومالي. كانت هذه العوامل تشكل مرحلة محاولات النظام تغيير البنية الإجماعية والعقدية للشعب الصومال، وكذلك العنف السياسي الذي مارسه النظام وتصفية الخصوم من داخل النظام، إما بالإعدام أو بالطرد من الوظائف الحكومية، كان ذلك بداية الجفاء بين الدولة والمجتمع الصومالي، رغم عنفوان النظام العسكري في تلك المرحلة المبكرة من عمره.

وحاول النظام في تلك المرحلة بناء قوالب جديدة للمجتمع الصومالي وإحداث تغيير بنيوي للمجتمع، فكان تأسيس الحزب الإشتراكي الصومالي عام 1976أحد اللآليات التي استخدمها النظام لعمل إطار سياسي واجتماعي وفكري، فعن طريق الحزب وضع الرئيس كل سلطات الدولة في يده، حيث تم  نقل السلطة من المجلس الأعلي للثورة الى الحزب ومن ثم الى الرئيس الذي جمع مناصب: رئيس الدولة، والقائد الأعلى للجيش، ورئيس المجلس القضاء، ورئيس مجلس الوزراء، وسكرتير عام الحزب (الحزب الاشتراكي). كما منحه التعديل الدستوري الذي أُجري في عام 1980 سلطات إضافية دون الرجوع إلى البرلمان أو الجهاز التنفيذي أو مجلس القضاء، في هذا الوقت الذى يجمع الرئيس جميع السلطات في يده تتشكل المعارضة المسلحة ويغارد المثقفون من البلاد مما يدل على عنجهية الرئيس وعدم إكتراثه لما يجري في البلاد .

 

المرحلة الثالثة( 1978-1988): وتبدأ هذه المرحلة من هزيمة الصومال في الحرب الصومالية الإثيوبية عام 1978، ومن ثم انسحاب الجيش الصومالي من إقليم أوجادين، وتنتهي باندلاع المعارك بين النظام العسكري والحركة الوطنية الصومالية المعارضة في مدينتي هرجيسا وبرعو عام 1988م. و كانت هزيمة الصومال في حربه ضد إثيوبيا من أبرز العمليات في تلك المرحلة التي أدت إلى تسارع وتيرة الحرب الأهلية وتصدع المجتمع الصومالي –فقد كان لتلك الهزيمة تكلفتها الباهظة التي انعكست على البلاد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا()، فكانت النتيجة ليس القضاء على الجيش الصومالى وما تبقي من مؤسسات هشة وضعيفة أصلا بل على الدولة الصومالية برمتها. وكان من أهم آثار الهزيمة محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها بعض ضباط الجيش والتي نتج عنها إعدام بعض الضباط، واعتقال العديد منهم وتصفية أفراد العشائر التي ينتمي إليها منفذوا الانقلاب من الجيش ومن مؤسسات الدولة، وممارسة الاضطهاد بصفة عامة ضد تلك العشائرومعاقبة كل من ينتمي الى هذه القبائل .

وكان من آثار الهزيمة وفشل المحاولة الإنقلابية والقمع الفاشي من قبل الدولة ضد سكان  المناطق الوسطي التي وصلت إلى درجة تمصميم الآبار للقضاء على المواشي – نشأة الجبهات المسلحة المعارضة للنظام والتي اتخذت من إثيوبيا قاعدة انطلاق لها. وقد اشتدت المعارك بين النظام والجهات المسلحة إثر اتفاقية الهدنة بين الصومال وإثيوبيا عام 1988، والتي كان من أهدافها تفرغ كلًا من النظامين الصومالي والإثيوبي للقتال في الجبهة الداخلية لكلا البلدين، والتي أفضت إلى خروج الحركة الوطنية الصومالية من قواعدها في الداخل الإثيوبي، وقيامها بمواجهة النظام في داخل مدينتي هرجيسا وبرعو، مما أدى على تدميرهما وتشريد مئات الآلاف من مواطني الشمال الى داخل الصومال وإلى إثيوبيا.

إن إستخدام الجيش الوطني لمحاربة القبائل المعارضة للدولة كانت أيضا نقطة تحول لإنهيار موسسة الجيش الصومالى برمته حيث إنضم الجنود والضباط الى المعارضة العشائرية وإنفرط عقد القوات المسلحة حيث تحول الى مليشيات قبلية تتصارع فقط.

المرحلة الرابعة (1988-1990):وهي مرحلة انتشار المعارك بين النظام والجبهات المعارضة المدعومة من إثيوبيا في داخل الأراضي الصومالية، والتي تسببت في تدمير الحياة في معظم محافظات البلاد وتنتهي بأواخر عام 1990، حيث أصبحت مناطق الشمال والوسط والجنوب الغربي مناطق عمليات، وعلى طول  امتداد الحدود الصومالية الأثيوبية، ولم يبق من البلاد ما عدا العاصمة مقديشو والمحافظات الجنوبية من البلاد. وتميزت تلك المرحلة بازدياد القمع الوحشي في الداخل وتسارع وتيرة الانتقام من قبل النظام للعشائر المعارضة، وممارسة الاعتقالات العشوائية للأعيان من المثقفين والسياسيين والعلماء،وموجات الهجرة الواسعة إلى الخارج وإلى الدول المجاورة، وعمليات النهب والسطو الذي كان يقوم به المتنفذون في الدولة.

وجرت سلسلة حوادث إجرامية من قبل النظام الحاكم في تلك المرحلة من مراحل انهيار الدولة الصومالية والتي أظهرت إصرار النظام الحاكم على الانتحار السياسي، وتعجيل وتيرة الحرب الأهلية، والذهاب بالدولة إلى النقطة التي لا يمكن العودة منها.

ومن أهم تلك الحوادث حادثة الملعب الرياضي، حيث قام الحرس الجمهوري بمجزرة الملعب الرياضي في مقديشو خلال دوري المحافظات الصومالية، وذلكبقيام الحرس المرافق للرئيس بإطلاق النار عشوائيًا على الجمهور بعد صيحات بعض المشاهدين في المدرجات ضد خطاب الرئيس، مما أدى إلى مقتل العشرات من المواطنين. ومن بينها كذلك إطلاق الحرس الجمهوري النار على المتظاهرين الغاضبين من الاعتقالات التي قامت بها الحكومة ضد زعماء إسلاميين إثر اغتيال ممثل الفاتيكان في مقديشو، حيث قتل العشرات من هؤلاء المتظاهرين. كما كان من تلك الحوادث أيضا حادثة الجزيرة التي جرت في يوليو عام 1990، حيث قام النظام  باعتقال مجموعة من المدنيين المنتمين إلى عشيرة الاسحاق من بيوتهم ليلا، وتصفيتهم جماعيًا عند ساحل الجزيرة في ضواحي مقديشو(). وتسارعت وتيرة الأحداث الخطيرة التي جرت في البلاد وفي العاصمة بعد ذلك، وخلال عام 1990م، اشتدت المعارك بين الجبهات المعارضة والنظام في المحافظات وتقطعت أوصال البلاد، وجرت عمليات هروب أفراد الجيش وانضمامه بعضهم إلى الجبهات، وسادت حالة من الخوف في العاصمة، حيث كانت عمليات القتل والسلب تحدث بصورة واسعة خلال الليل.

المرحلة الخامسة (1990-1991): وهي المرحلة الأخيرة من مراحل انهيار الدولة، وتبدأ باندلاع المقاومة المسلحة ضد النظام في العاصمة في الثامن والعشرين من ديسبمر 1990، وتنتهي بهروب الرئيس سياد برى من العاصمة إلى الجنوب في السادس والعشرين من يناير 1991.  وقد كانت عملية  اندلاع المقاومة المسلحة للنظام في داخل العاصمة في ديسمبر 1990 مسألة وقت فقط، وذلك بعد أن تقطعت المواصلات في البلاد، وأصبحت المناطق الوسطى والجنوب الغربي مناطق عمليات بين النظام والمعارضة، واختفت مظاهر الدولة تدريجيا، فكانت اندلاع المواجهات في العاصمة والإطاحة بسلطة الرئيس سياد برى إيذانا بإغلاق الفصل الأخير من فصول انهيار الدولة، وهو ماجرى بالفعل بعد شهر من المواجهات بين الطرفين وما رافقها من القتل العشوائي ونهب ما تبقى من ممتلكات الدولة وتدمير العاصمة، وفشل المحاولات الأخيرة لوقف اطلاق النار وترتيب انتقال للسلطة، فانتقلت البلاد بعدها من مرحلة الحرب الأهلية بين السلطة والمعارضة في ظل وجود هيكل الدولة إلى مرحلة الحرب الأهلية بين أطراف المعارضة في ظل غياب الدولة  بالكامل وبرزت الأطماع العشائرية لتشكل بديلا عن الدولة وخاصة في العاصمة التى شهدت أغلب الحروب والدمار وإزهاق الأرواح البرئية.

المبحث الثالث- محاولات إنقاذ الدولة الصومالية

ذهبت معظم تحليلات الباحثين في الشأن الصومالي بعد انهيار الدولة الصومالية وتفشي الحرب الأهلية في البلاد إلى التركيز على أسباب الانهيار وصف الحالة الإنسانية التي نشأت من الانهيار،  بيما ذهب عدد أقل  من الكتاب والباحثين إلى البحث عن محاولات إنقاذ الدولة وتجنب الكارثة. وعلى هذا الأساس فإنه بات من الأهمية بمكان البحث والتساؤل حول محاولات الإنقاذ، وهل كان هناك في الأساس محاولات من الداخل الصومالي أو الخارج لإنقاذ الدولة الصومالية قبل وصولها إلى لحظة الانهيار الكامل وطريق اللاعودة؟ وهل توقع الصوماليون والمجتمع الدولي انهيارًا كاملًا للدولة الصومالية وتفاقم حجم الماساة التي كانت تنتظر الصوماليين؟ ولماذ لم يحاول الصوماليون إنقاذ دولتهم؟ لماذا لم تحاول الدول الأفريقية والعربية المجاورة والمنظمات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية والمجتمع الدولي إلى القيام بمسؤولياتها تجاه انقاذ الصومال، والحيلولة دون حدوث الكارثة المحققة؟ أين كانت إيطاليا الدولة الاستعمارية للصومال والداعم السياسي والاقتصادي الأول للصومال حين انهارت الدولة الصومالية، ولماذا لم تحاول أيضًا واشنطونالتي كانت تقدم المساعدات السخية للنظام الصومالي في أوائل الثمانينيات في الضغط على النظام لقبول مبادرات المصالحة والسلام في نهاية التسعينيات؟

وكما يبدو فإنه وعلى الرغم من عدم توقع النخبة السياسية بشقيها المتمثل في النظام الحاكم آنذاك أو قيادة المعارضة أن تنتهي الأمور على هذا النحو، فقد كانت هناك محاولات لإبراء الذمة ولإنذار النظام الصومالي بخطورة الوضع واحتمالية انهيار الدولة الصومالية وتفكك الشعب الصومالي، وإمكانية ضياع مكتسبات الشعب الصومالي خلال مرحلتي الكفاح الوطني والاستقلال، وذلك عبر تقديم مبادرات لوقف الحرب الأهلية والوصول إلى تسوية سياسية بين النظام والمعارضة. ويعتبر عام 1990 العام الأخير من عمر الدولة الصومالية عام البيانات والمبادرات حسب تعبير المؤرخ الشيخ عبد الرحمن حسين (أبو حمزة)().  وجاءت هذه المبادرات على شكل تقديم بيانات سياسية عامة، أبرزها مبادرة مجموعىة مانفستو التي نُشرت في الخامس عشر من مايو عام 1990،  ومبادرة العلماء بقيادة حركة الإصلاح الإسلامية التي أطلقت أيضا في الخامس من يوليو 1990. وتعتبر تلك البيانات الصوت السلمي الخافت في وسط أصوات الرصاص التي كان يستخدمتها كل من النظام والمعارضة، التي علت فوق كل أصوات الحكمة والتعقل آنذاك.  وكما كانت هناك مبادرات محلية متواضعة مقارنة بحجم الأزمة التي كانت تمر بها البلاد آنذاك، فقد كان هناك أيضا مبادرات إقليمية من مصر وإيطاليا أكبر حليفتين للصومال في نفس العام وذلك دون أن تحظى هي الأخرى بالزخم المطلوب والدعم اللازم لدفع أطراف الصراع النظام والمعارضة نحو طاولة المفاوضات.

 

(أ) المبادرات المحلية لإنقاذ الدولة الصومالية:

كانت مبادرة مجموعة من الزعماء والحكماء الصوماليين – التي عرفت لاحقًا بمجموعة مانفستو والتي جاءت على شكل بيان مفتوح موجه للرئيس الصومالي آنذاك محمد سياد برى – من أشهر تلك المبادرات وأكثرها جرأة()، وكان تلك المجموعة التي وقعت البيان مكونة من مائة وأربعة عشر زعيمًا شملت قيادات سياسية باررزة وزعماء قبائل وعلماء دين مشهورين يتقدمهم آدم عبد الله عثمان الرئيس الصومالي الأول بعد الاستقلال، ورئيس آخر برلمان منتخب الشيخ مختار. ووزراء سابقين وتجار وكان لتاريخ نشر المبادرة وعدد أعضائها دلالة قومية وإسلامية، فقد تم نشر المبادرة في الخامس عشر من مايو 1990، وذلك بالتزامن مع الذكرى الثامنة والأربعين لتأسيس نادي الشباب الصومالي، أول حزب سياسي صومالي في العصر الحديث، وحزب الاستقلال والحاكم في العهد المدني قبل الانقلاب العسكري عام 1969م، كما شكل أصحاب المبادرة لجنة مصغرة مكونة من 13 عضوًا تيمنًا بمؤسسي حزب وحدة الشباب الذين كان عددهم ثلاثة عشر شابا آنذالك، كما يحمل عدد 114 الذي يشكل مجموعة الموقعين للبيان رمزية إسلامية حيث يماثل عدد سور القرآن الكريم().

وبالنسبة لمضمون البيان، فيمكن إجمال حديثه بثلاث محاور رئيسة، المحور الأول:  وتضمن وصف تفصيلي للأوضاع التي آلت إليه البلاد، من حرب أهلية مستعرة وتأثيراته، وانعدام الأمن، وانتهاك حقوق الانسان، وسوء الإدارة الحكومية، والتدهور الاقتصادي وأسبابه. ويعرض المحور الثاني روية أصحاب المبادرة في عدم قدرة النظام وحده على انقاذ البلاد، ومن ثم، ولبناء الثقة وإعطاء زخم للمقترحات الدستورية والتغييرات الديمقراطية المطلوبة يقترح أصحاب المبادرة  تهيئة البلاد عبر الغاء مجموعة من القوانين القمعية والمقيدة للحريات تمهيدًا للخطوات التالية. ويتضمن المحور الثالث: مقترحات حول عقد مؤتمر للمصالحة والإنقاذ الوطني، يهدف إلى: الوقف الفوري للحرب وإيجاد الحلول السياسية لأزمة، وبناء نظام سياسي قائم على أسس ديمقراطية، وعقد مؤتمر للمصالحة في الدول الصديقة كجيبوتي أو السعودية أو مصر أو إيطاليا. كذلك لضمان الإعداد الجيد للمؤتمر شكل أصحاب المبادرة لجنة لإعداد المؤتمر مكونة من أصحاب المبادرة أنفسهم().

وعلى الرغم من أن أصحاب المبادرة لم يكن أي منهم محسوب على المعارضة وكان صوتهم يمثل صوت العقل والحكمة، إلا أن رد فعل الحكومة العسكرية آنذاك كان متطرفًا وغير حكيم، حيث تم اتهام أصحاب المبادرة أنفسهم بجريمة نشر دعاية مغرضة ضد الدولة، والوقيعة بين الدولة والشعب، ونشر الفتن والقلاقل في البلاد. وعلى أثرها قام النظام باعتقال أربعين من أصحاب المبادرة، بينما هرب الآخرون من البلاد للنجاة بأنفسهم. وتم لاحقًا إطلاق سراح الزعماء المعتقلين من أصحاب المبادرة بعد ضغوط دولية على الحكومة العسكرية. وبدلًا من الاستفادة من المبادرة التي قدمها الحكماء الصوماليين المعتبرون في الوسط الصومالي آنذاك والتي جاءت متأخرة،فقد شكلت الحكومة لجنة للمصالحة من جانبها، وطلبت من أصحاب المبادرة التعاون وإبداء رأيهم في كيفية استعادة الأمن للبلاد، ولكن أصحاب المبادرة ردوا بأن الحكومة هي المتهمة بمسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الأمنية في البلاد، وبأنها طرف في الصراع، ولا يمكن أن تقود هي المصالحة، كما لا يمكن أن تقبل الجبهات المعارضة المسلحة بالجلوس معها،  لذا اعتذروا عن العمل مع اللجنة الحكومية، كما أبدو بأن خطوات الحكومة على أرض الواقع يتناقض مع ما تدعو إليه من مصالحة، لذا اقترحوا من جديد إطلاق الحريات كبادرة حسن نية والعمل على المقترحات التي تضمنت بها المبادرة، وشكلو لجنة مصغرة من أصحاب المبادرة للاتصال معهم عند الضرورة().

ورغم موت مبادرة مجموعة مانفستو، وعدم استفادة النظام الصومالي من تلك المحاولة التي جاءت من مجموعة سلمية ومحايدة، وجاءت في وقت كان البلاد في أمس الحاجة إلى الإنقاذ الفوري من الكارثة،  إلا أن المبادرة من جانب آخر قد فتحت المجال لتنفس الكثير من المجموعات غير المسلحة التي عانت من الكبت والاضطهاد، وثم توالت البيانات المنددة للنظام في مقديشو، ومن أشهر تلك البيانات المحلية البيان الذي أصدره مجموعة من العلماء باسم “وا اسلاماه ” ، فقد  رأى الاسلاميون أن بيان مجموعة مانفستو لم يكن يتماشى مع الأجندة الإسلامية، ولم يكن يعبر عن وجهة نظرهم للأزمة والحل، وذلك رغم وجود عدد من الإسلاميين وعلماء الشريعة الذين وقعو في بيان مانفستو. وجاء هذا البيان بقيادة حركة الإصلاح الإسلامية ذات التوجهات الإخوانية، وتم نشر البيان في يوليو 1990(). ويبدو أن هدف البيان جاء عبر بحث الإسلاميين عن دور مستقل عن أصحاب المبادرات الأخرى من الوطنيين، والتركيز على أن أصل المشكلة هو غياب الشريعة، وأن الحل يكمن في تطبيقها، وكذلك رفض مسودة الدستور الذي أعده سياد برى، الذي رأو أنه لا يتضمن مبادئ الشريعة الإسلامية.

لم يكن النظام وحده هو الذى رفض المبادات بل ايضا الجبهات المسلحة رفضت جميع المبادرات وهي تعتقد أنها موقف القوة وأن النظام قد إنتهي فعليا ، وهناك من يريد قطف ثمار كفاحهم العسكري ، وشهية الكرسي مفتوحة للجميع .

 

(ب)  المحاولات الإقليمية والدولية:

وإذا كانت المحاولات المحلية لإنقاذ الدولة الصومالية لم تنجح ولم تكن على مستوى وحجم الأزمة الصومالية، فإن المحاولات الإقليمية والدولية كانت هي الأخرى متواضعة ومتأخرة في نفس الوقت، وطرحت مصر مبادرة للوساطة بين النظام والمعارضة في ديسمبر عام 1990، وذلك انطلاقا من  العلاقات التاريخية التي تربط مصر بالصومال، والتي تقوم على المصالح الاستراتيجية المتمثلة بمصالح مصر في البحر الأحمر ومنابع النيل في المرتفعات الاثيوبية، وكان لمصر الدور الأكبر في دعم استقلال الصومال في الخمسينيات من القرن الماضي، كما كانت الحليف الإقليمي الأول للصومال خلال الثمانينيات من القرن الماضي وخصوصًا بعد طرد الصومال للاتحاد السوفيتي منذ عام 1978، ومثل الصومال كذلك الحليف الأقرب لمصر بعد المقاطعة العربية لها بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث كان الصومال من الدول القليلة التي أبقت علاقاتها الدبلوماسية مع مصر.

ولم تلقى المبادرة المصرية للمصالحة التي طرحت في ديسمبر عام 1990، أي الأيام الأخيرة من عمر النظام الصومالي والدولة الصومالية أي ترحيب من المعارضة الصومالية وخصوصًا من جانب كل من المؤتمر الصومالي الموحد (United Somali Congress) أكبر جبهات المعارضة في الجنوب و الحركة الوطنية الصومالية (Somali National Movement) المعارضة الرئيسية في الشمال، حيث كانت المعارضة الصومالية تتهم مصر بأنها تدعم النظام الصومالي آنذاك وأنها دولة غير محايدة()، كما كانت الجبهات تعتقد أنها في موقف القوة في تلك اللحظة، وأن النظام الصومالي قد أوشك على الانهيار، ومن ثم فإن أية عملية مصالحة سوف تكون في صالح النظام وتنقذه من الانهيار. وبالإضافة إلى فشل المبادرة المصرية بعدم استعداد الأطراف الصومالية للمصالحة، فإن مصر أيضا لم تعطي المبادرة بالثقل السياسي الذي كانت تحتاجه، وذلك نظرًا لانشغالها باستعادة زمام القيادة في النظام العربي بعد إنهاء العزلة التي فرضتها الدول العربية عليها منذ كامب ديفيد 1979، ثم الغزو العراقي على الكويت عام 1990،  وانقسام الدول العربية إلى مؤيد للعراق ومعارض لها، وما تلاها من قيام أمريكا بقيادة التحالف الدولي لطرد العراق من الكويت في عملية عاصفة الصحراء في حرب الخليج الثانية.

وتعتبر إيطاليا الحليف والراعي الدولي الآخر الأقرب للصومال،  وذلك بحكم العلاقات الخاصة بين الصومال وإيطاليا بحكم الاستعمار، وبقيت الدولة صاحبة المكانة الدبلوماسية الأولى بعد الاستقلال، حيث باتت الصومال المستعمرة السابقة والوحيدة التي بقيت لتكون مجال تأثير إيطاليا الوحيد في القارة الأفريقية.وبحكم تلك العلاقات الخاصة بين البلدين قامت إيطاليا بمحاولة وساطة بين الموقعين على بيان مانفستو والنظام في مايو التسعينيات، والتي انتهت بالفشل الذريع()، كما أن السفير الإيطالي في مقديشو أبد تأييدًا علنيًا لبيان مانغستو، وكان من ضمن الجهات الدولية التي مارست ضغوطًا على نظام سياد برى بعدم التعرض لهؤلاء القادة وإطلاق صراحهم فيما بعد().

وتتحمل أيطاليا جزئيًا مسؤولية عدم بذل الجهود الكافية للضغط على النظام الصومالي باعتبارها الراعي الدولي الأول للصومال،  وذلك للوساطة بين النظام والمعارضة منذ وقت مبكر من الحرب الأهلية. ولكن يبدو أن المشكلة  أعمق من فشل مبادرتها للوساطة في اللحظات الأخيرة، بل تعود المشكلة إلى سياستها الخارجية تجاه المنطقة بصفة عامة التي شهدت بالارتباك لعدة عوامل، من بينها انتهاجها في سياستها الخارجية في الصومال عبر مسارين مختلفتين لم يكونا بالضرورة يجري التنسيق بينها،الأول عبر المسار الرسمي المتمثل في وزارة الخارجية الذي كان يمثلها غالبًا الحزب الديمقراطي المسيحي، أما المسار الثاني فكان يمثلها الحزب الشيوعي الذي كان يقيم علاقات قوية مع نظام بري في السبعينات والثمانينيات(). وثانيهما هو قيام السياسية الإيطالية في القرن الأفريقي على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للنظام، الأمر الثالث هو القراءة الخاطئة  للقيادة السياسية الإيطالية لاتفاقية الهدنة والسلام بين الصومال وإثيوبيا في أبريل 1988، فبدلا من القراءة الصحيحة لمغزى النظامان الصومالي والإثيوبي  من الاتفاقية الذي يتمثل في رغبة كل منها بإغلاق ملف النزاع الإقليمي للتفرغ للصراع مع المعارضة والقناعة بجدوى الحل العسكري فقط،  قرأ الساسة الإيطاليون للاتفاقية على أنها سوف تدعم النظامان ضد المعارضة المسلحة ومن ثم سوف يقوي ذلك الموقع الإيطالي في القرن الافريقي، مما ساهم في تفاقم الوضع()، وفي فشل المبادرات التي قدمتها إيطاليا لاحقًا بعد فوات الأوان .

وعلى عكس الاعتقاد الإيطالي بتحسن الأوضاع السياسية والأمنية بعد اتفاقية السلام الصومالية-الإثيوبية عام 1988، فإن الأوضاع إزدادت سوءًا، ورغم ذلك بقيت إيطاليا الدولة الغربية الوحيدة التي تدعم نظام سياد برى، واستمرت الزيارات ذات المستوى الرفيع التي يقوم بها المسؤولون الإيطاليون للصومال،  وكان من بينها زيارة الرئيس الإيطالي فرنسيسكو كوسيجا ووزير الخارجية آنذاك جيوليو أندريوتي لمقديشو في فبراير 1989 ولقائهما بسياد برى، ولكنه ساءت العلاقات بشدة بعد مقتل الأسقف سلفاتوري كولومبو ممثل الفاتيكان في مقديشو في مايو 1989م، ومن ثَّم تم في يوليو التالي سحب أفراد البعثة العسكرية الإيطالية في الصومال)(، مما كان يعني الوداع الأخير للحليف الصومالي قبل الغرق في مستنقع الحرب الأهلية ووقوع بنيان الدولة الصومالية على رؤوس الصوماليين جميعًا.  

وإذا كانت الجهود الإيطالية للوساطة بين أطراف النزاع الصومالي والحيلولة دون انهيار الدولة الصومالية، فإن واشطنون الحليف القوي لنظام برى في عقد الثمانينيات لم يقدم دبلوماسية كافية، وانشغلت واشنطون في قطف ثمار انتهاء الحرب البادرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الذي تزامن مع اشتداد الحرب الأهلية الصومالية، واكتفت بقطع الدعم السخي الذي كات تقدمه للنظام وتوجيه الانتقادات المتعلقة بانتهاك السلطات الصومالية لحقوق الانسان، كما كانت منشغلة أيضا بحرب الخليج الثانية عامي 1990/1991م، ومن ثم لم تلقى المبادرات المحلية والإقليمية الاهتمام الكافي والثقل الدولي الذي تحتاجه الىالأطراف الصومالية،  وقد اعتبر  محمد سحنون  الممثل الخاص للأمم المتحدة في الصومال في عام 1992 مبادرة مجموعة مانفستو التي أطلقت في مايو 1990م، والتي لم تحظى القبول من الأطراف الصومالية والدعم من المجتمع الدولي  بإحدى الفرص الثلاث الضائعة لتجنب انهيار الدولة الصومالية ().

 

المبحث الرابع–  نتائج انهيار الدولة الصومالية

لقد نشأ عن انهيار الدولة الصومالية نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية كارثية، لم يتوقعه الصوماليون والمجتمع الدولي ولم يتم الاستعداد لها، كما أنه لم تقتصر آثارها على الصومال فقط، وأنما امتدت إلى المحيط الإقليمي والدولي. ونظرًا لكون تلك النتائج واسعة النطاق فإننا سوف نتناولها بصورة موجزة  وسريعة، وأولها النتائج السياسية وتشمل: إنهيار المؤسسات السياسية السيادية للدولة، والحروب الشاملة، والفوضى العارمة. وثانيها النتائج الاقتصادية، وتشمل: انهيار المؤسسات الاقتصادية العامة، وتوقف حركة التجارة الخارجية، وتوقف حركة الإنتاج، ونشوء الاقتصاد البديل. وثالثها النتائج الاجتماعية والإنسانية، وتضم : تفكك السلم الأهلي للمجتمع الصومالي،  والتمايز القبلي، والنزوح والهجرة الواسعة، وانتشار المجاعة. ونلفت النظر إلى أننا سوف نتحدث عنه هنا النتائج المباشر قريبة المدى للانهيار التي استمرت خلال السنتين التاليين للانهيار، ولا تناول النتائج بعيدة المدى التي ربما تستمر آثارها حتى الآن.

 

أولا- النتائج السياسية

(أ) إنهيار المؤسسات السياسية السيادية للدولة: عند ما انهارت الدولة المركزية انهار معها كل المؤسسات الأمنية مثل الجيش والشرطة والمخابرات، والمؤسسات الخدمية التي كانت ترعى المرافق الخدمية من صحة وتعليم وتوفير البنية التحتية، مما أعاد الصومال الى عصر ما قبل الدولة، ولم يتوقع أحد لا من الصوماليين ولا من غيرهم بالشكل الذى أنهار بها الدولة الصومالية، فهو نوع فريد لم يحدث في بقية الدول الإفريقية، فالإنهيارات الإفريقية كلها كانت جزئية وفي مناطق معينة، لم يعقب سقوط نظام سياد يري وصول نظام بديل للسلطة  قادر على حفظ الأمن في البلاد، بل استمرت حالة استثنائية من غياب للدولة نشأت عنه فراغ سياسي على مستوي البلاد، وذلك بفعل عجز أي طرف عن السيطرة على السلطة().

ونتيجة لانهيار سلطة الدولة الصومالية بصورة كلية تحولت العاصمة الى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وتحولت موسسات الدولة الى ملكيات خاصة للمليشيات ” لقد آلت ملكية مؤسسات الدولة الموروثة عن النظام السابق من المطارات والطرق والمنشئات الحكومية الى العديد من قادة الفصائل ورجال الأعمال”() ” إن فشل العلميات السياسية التى تربط السلطة بالمجتمع في هذه الحالة تصبح مؤسسات الدولة عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه أطياف واسعة من الشعب خاصة في مسائل الأمن والتنمية وتقديم الخدمات العمومية من تعليم وصحة، وفي المقابل تبرز ظاهرة العصيان والتمرد لكل ما يرمز للدولة من طرف قطاعات واسعة من المجتمع “() وهذا ما حدث بالفعل للدولة الصومالية شعب ناقم على الدولة ومؤسساتها اجتاح العاصمة فانتقم كل مظاهر الدولة شر إنتقام.

وما جرى في الصومال من انتقام الشعب الصومالي من الدولة ومن مؤسساتها لم يكن أمرًا غريبًا  وخاصًا بالمجتمع الصومالي، فقد نشأت تلك الحالة من إحساس المواطن الصومالي بالدولة كونها غريبة عنها وغير معبرة عن مصالحة وكيانه، وهذه الظاهرة موجودة في أفريقيا بصفة عامة، وقد وصف أحد الباحثين في الشأن الأفريقي تلك الظاهرة  بقوله ” صحيح أن السلطة القومية ينظر إليها كسيادة خارجية المصدر. ففي إقليم أفاهو (غانا) تُعتبر حكومة أكرا “ابان” (خارجية مفروضة) لا “أومان( أصلية من الداخل)، والماكا في الكامرونيقولون إنهم ذاهبون إلى “بلاد البيض عندما يتوجهون إلى المركز لكي يشيروا بطرافة إلى أنهم يلجون عالمًا غريبًا عن عالمهم الريفي والنَسَبيز، وهذه التصورات معتادة في ظل الأوضاع السلطوية أو المركزية الشديدة. وكان لا مفر منها في أفريقيا بما أن القادة كانو يضعون الدولة “المنضبطة” في مواجهة المجتمع كاستمرار بالفعل للنموذج الاستعماري()”.

وعلى الصعيد الخارجي لقد كان من أعظم نتائج الحرب على المستوى السیاسي ذهاب الدولة المركزیة ذات السیادة وغیابها عن الحضور إقلیمیاوعالمیا، ومن ثم لم یعد للسفارات الخارجیة للصومال وجود أو دور یذكر في ترتیب أوضاع المغتربین في أنحاء العالم، بل أصبح الصومالیون كشعب في العراء دون أي غطاء یستندون إلیه، أو یلجؤون له، مما أدى إلى انتهاك حقوقهم وإهدار كرماتهم، لقد غاب الصومال عن جمیع الهیئات والمنظمات الدولیةوالإقلیمیة كالأمم المتحدة والجامعة العربیة،وهذا كان یعني غیاب قضایاهوهمومه وممثلیه الشرعیین في هذه  الدول التي نزحو إليها().

 

(ج) الحروب الشاملة : كان من أكبر النتائج الكارثية التي نشأت من غياب سلطة الدولة الصومالية الحروب الشاملة، حيث اعتقد قادة الجبهات المسلحة – وخصوصًا المؤتمر الصومالي الموحد بقيادة الجنرال عيديد – أن بإمكانهم الانتصار العسكري على الجبهات الأخرى، ومن ثم فرض السلطة على الجميع، وجاءت تلك القناعة من الانتصار على الحكومة في الجنوب وقدرة ذلك الفصيل على الإطاحة بالرئيس محمد سياد برى في 26 يناير 1991م. وكان من أكثر تلك الحروب دموية الحرب التي اندلعت بين قيادة جناحي  المؤتمر الصومالي الموحد، على مهدى محمد والجنرال عيديد، واستمرت لمدة أربعة أشهر في العاصمة التي لم تُبق شيئا. وكان الصراع بين عشيرتي أبجال وهبرجدر، وقد سيطر جنرال عيدي أغلب أحياء جنوب العاصمة وحشر أبجال في شمال العاصمة، وكلا الطرفين لم يستطع حسم الصراع عسكريًا رغم كثرة الضحايا والخسائر. وتحولت مليشيات الجانبين إلى مجرد عصابات إجرامية تعمل فقط من أجل مصلحتها وتحقيق مكاسب مادية، وبما أن الفريقين لم يتمكنا من توفير رواتب للمليشيات فقد جعلوا قوتهم ما ينهبون من الشعب الصومالى، ولم تتمخض عقلياتهم بالمصالحة وتقاسم السلطة مادام الحسم العسكريى قد فشل .

 

(د) الفوضى العارمة: ونتيجة لغياب سلطة الدولة وانتشار موجة العنف والصراع المسلح، انتشرت الفوضى العارمة في البلاد وخاصة في الجنوب، فقدكان أغلب عناصر قوات الجبهات المسلحة شباب من البادية تم تجنيدهم على أساس عشائري وتم زرعهم رغبة الإنتقام فيهم فكانت عملية سفك الدماء أسهل لديهم من أي شئ آخر اذا وجدوا فرصة من خصومهم من القبائل الأخري، إضافة إلى ذلك كان هناك عداء مستحكم بين أهل البادية والدولة لأنهم لم يجدوا في الحكومات الصومالية المدنية منها والعسكرية أى خدمات يقدم لهم كمواطنين في هذا البلد، بل كانوا يدفعون الضرائب عندما يبيعون مواشيهم، فعند ما وجدوا فرصة الإنقضاض على الدولة وموسساتهما دمروا كل شي، فلا مستشفى سلم من التدمير ولا وزاراوت، حتي حقول الموز  وبساتين الفواكه أتلفوها .

لقد اعتقد هؤلاء الشباب أن الدولة ومرافقها للرئيس السابق، لأن ملكية الدولة وممتلكاتها كانت تعود لمنتفعيها فقط من المتنفذين في الدولة وليس للشعب الصومالى، أما المحرومون من عامة الشعب الصومالي فلم يكونوا  يرون أنهم أصحاب حق في الدولة. والأنكي من ذلك أن القيادات العسكرية والسياسية الذين شكلوا عقول هولاء الشباب لم يستطيعوا التحكم بعد ذلك بل أصبحوا رهينة لهم . ونتيجة لذلك  تحولت المليشيات المسلحة الى آلة تدمير ليس للبشر فقط بل أيضا للبلاد كله من مبان ومرافق خدمية وحتى المصالح الخاصة للشعب الصومالى، ولم تسلم حتى المساجد المقدسة لدى الشعب الصومالىبسبب الكراهية القبلية، ومن ثم فقد تم نهب  كل شئ.

وبعد انحسار الموجة الأولى من الحروب الشاملة والفوضى العارمة وتم  القضاء ما تبقى من مخلفات الدولة،حيث بدأت مرحلة جديدة، وهي انقسام الفصائل نفسها على أسس عشائرية  حيث ” إن كثيرًا من المليشيات انقسمت على أسس فرعية، بسبب الخلافات فيما بين الفروع المختلفة من العشائر على القضايا المتعلقة بالسلطة والموارد()“، فشهدت العاصمة الصومالية موجة أخرى من الحروب، وأصبح من المتعذر حدوث تبدلات جوهرية في موازين القوي بين أطراف الصراع في الصومال بالنظر إلى الإسناد العشائري الذى يتمتع به الكثير من تلك الأطراف ” وأستمر التدمير حتى في حالات التدخلات الخارجية.

ولم تقتصر تلك الفوضى العارمة على الصومال فقط بل امتد أثرها إلى المحيط الاقلميمي والدولي، فأصبحت القضية الصومالية العب على المجتمع الدولي لا يمكن غض الطرف عنه، “فمنذ نهاية الحرب الباردة يمكن القول بأن الدول الضعيفة أو الفاشلة أصبحت- جدلًا- المشكلة الاكثر أهمية في النظام العالمي الجديد لأن هذه الدول ترتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان وتهاجم جيرانها وتدفع بموجات كثيفة من الهجرة خارج أراضيها، وتسبب في كوارث انسانية كبيرة، وأبرز نموذج لهذه الدول هي الصومال وأفغانستان()”.

ثانيا–  النتائج الاقتصادية

شملت النتائج الاقتصادية لانهيار الدولة الصومالية انهيار المؤسسات الاقتصادية التي كانت تديره الدولة بصفة عامة، وتوقف حركة التجارة جزئيًا– خصوصًا في السنتين التاليين للانهيار- وتوقف كذلك حركة الإنتاج، علمًا بأن الدولة الصومالية المنهارة كانت تنتهج نهج الاقتصاد الاشتراكي، حيث كانت الدولة تمتلك المؤسسات الاقتصادية، فعمت البطالة والجوع والفقر بسبب عدم وجود مرافق حيوية وبنیة تحتیة اقتصادیة، وبسبب إغلاق مطار ومیناء العاصمة الحیویین للاقتصاد الوطني، وانهيار سعر الشلن الصومالي أمام العملات الأخرى، لأسباب منها إغراق السوق بالعملة المزیفة المطبوعة في الخارج، فقد سادت موجة من التضخم في المعيشة، وكانت هناك صعوبة تنقل البضائع بینالمدن والمناطق بسبب فقدان الأمن وكثرة الحوجز غیر الشرعیة الطالبة لدفع الرشاوي التي كانت تدفع للعصابات التي تنصب هذه الحواجز()”.

 

(أ) انهيار المؤسات الاقتصادية العامة : أدى الإنهيار الكامل للدولة الصومالية إلى انهيار المؤسست الاقتصادية التي كان تديرها وتوقف وجميع الخدمات التي كانت تقدمها تلك المرافق، وتوقفت المرتبات التي كانت الدولة تقدمها، وكذلك المشاريع التنموية، والمصانع والمدارس ومؤسسات التعليم العالي والمعاهد، وشركات القطاع العام والخاص، وتم تقريبًا تدميرما بناه الشعب الصومالي خلال عهدي الاستعمار والاستقلال.

(ب) توقف حركة  التجارة الداخلية والخارجية: ونتيجة لاغلاق المطارات والمواني وأهمها مطار وميناء مقديشو بسبب النزاع حول إدارته من قبل الفصائل المتصارعة في العاصمة، وانقطاع الصومال جزئيا عن العالم توقفت حركة التجارة الخارجية في الجنوب على الأقل، كما توقفت جزئيا في السنة الأولى التالية للانهيار حركة التجارة الداخلية، بسبب الحروب بين القبائل ونهب الممتلكات والبضائع. ولكن قامت بعض الفصائل بفرض نمط جديد من الخصصة بقوة السلاح، لم تعرفه الإقتصاديات العالمية من قبل، وقد قام الكثيرون السيطرة الكاملة على هذه المؤسسات”( مثل المطارات والمواني، فعندما أغلق ميناء مقديشو ومطارها شرعت العشائر بتأسيس الموانيوالمطارات البديلة(جدول رقم 5).

جدول رقم (5)

المطارات البديلة التي تم تأسيسها من بعض العشائر بعد انهيار الدولة

م

المطاروالمواني

العشيرة المهيمنة

1

مطار عسلي

أبجال

2

مطار بلدوغله

هبرجدر

3

ميناء عيل معان

أبجال

4

مطار رقم 50

هبرجدر

5

ميناء مركة

هبرجدر

 

 

(ج) توقف حركة الإنتاج : خلال الشهور الأولى التالية للانهيار توقفت جميع أشكال الإنتاج في البلاد، بما فيها الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، ففي المجال الزراعي تضرر الإنتاج الرعوي والزراعي كثيرًا بسبب غياب الأمن، وخاصة في المناطق الزراعية التي تقع بين النهرين، وهي المنطقة الأكثر انتاجًا في الصومال، كما يعتبر المزارعون أضعف فئات المجتمع الصومالى في الحروب. وتعود أسباب ذلك إلى استمرار عمليات الكرّ والفرّ في هذه المناطق بين مليشيات المؤتمر الصومالي الموحد، وبين المليشيات التابعة لبقايا النظام سياد برى وذلك خلال عامي 1991و 1992، مما جعل تلك المناطق تشهد أكبر موجة مجاعة تشهدها البلاد.

وتوقف العمل كذلك في المزارع الكبيرة مثل حقول الموز بسبب اغلاق الموانيالمطارات والمنافد البرية  وصراعات المليشيات المستمرة . وقامت  الفصائلالمتصارعة لاحقًا بانشاء نُظم اقتصادية متكاملة خاصة بها مرتبطة بشبكات التجارة الدولية الخاصة باستغلال الموارد الخام والموارد الطبيعية()”، وسمح قادة الفصائل في إطار هذا النمط الإقتصادي لأتباعهم ممارسة عمليات السلب والنهب وذلك كبديل عن دفع رواتب لهم، وتطور هذا الأمر الى درجة أن أعضاء تلك الجماعات بدأوا يستغلون عمليات السلب والنهب من أجل تكوين ثروات خاصة بهم()”. وتـأثر الإنتـاج الزراعـي كـذلك بموجـات الجفـاف المتكـرّرة الـتي ضـربت الـصومال بالتزامن مع انهيار الدولة()، علما بأن مجموع الرعاة والمزارعين في البلاد يشكلون أكثر من 85% من السكان ().

 

(د) نشوء الاقتصاد البديل:  وفي ظل غياب الدولة وعدم ظهور بوادر عودتها في وقت قريب، بدأ الشعب الصومالى يتكيف مع الوضع الجديد، ومن ثَّم حرك آليات جديدة وهيكلية للإقتصاد الصومالى، ومع قسوة ظروف الحرب الا أن التجارة البنية داخل المجتمع المتحارب لم تتوقف إلا في وقت قصير،  وتأسست شركات مشتركة لتنقل البضائع. وفي ظل غياب كامل للدولة الصومالية قام بعض لوردات الحرب بوضع حواجز في الطرق التي تربط المحافظات وفرض إتاوات البضائع والشاحنات في مناطق سيطرة لكل قائد حرب، من أجل جني المال،ثم تطور الأمر الى إقامة مطارات ومواني لكسب المزيد من الأموال. ومن هنا ظهرت ما يعرف ب” إقتصاد الحرب” …الذي ينشأ في بيئة الحروب الإهلية، ويؤدي إلى بروز نمط اقتصادي يتسم بهيمنة لوردات الحرب على الشؤن الإقتصادية()”. حيث نشأت العديد من الشركات التجارية التى استفادت من غياب مؤسسات الدولة، وبذلت بكل جهد بعدم عودة الدولة الصومالية، بسبب الأرباح الهائلة التي حصلوا عليها في ظل غياب الدولة، مما ساهم في نشوء مجموعات منتفعة بغياب الدولة، تسعى في العمل على استمرار الوضع على ما كان عليه.

ويحدد ديفيد كين مجموعة من الخصائص التى تميز اقصاديات الحرب التىتنشأ في إطار الصراعات الداخلية في أفريقيا ومن تلك الخصائص ما يلي: ()

1- إنتشار عمليات السلب والنهب.
2- فرض لوردات الحرب الحماية على التجار ورجال الأعمال مقابل الإتاوات.
3- سيطرة لوردات الحرب على بعض أشكال التجارة.
4- استغلال العمال من أجل العمل بأسعار رخيصة أو السخرة تحت تهديد السلاح.
5- فرض السيطرة على الأرض.
6- الإستيلاء على مواد الإغاثة.
7- إستفادة العسكريين من الصراع.

ومن نافلة القول أنه رغم سقوط الدولة الصومالية وانهيار المؤسسات التجارية وتعرضها للنهب والسلب من قبل المليشيات القبلية وانهيار النظم التجارية في البلاد إلا أنه سرعان ما سلك الصوماليون طرقًا وعرة في مراحل الأولى من الحرب الأهلية، ومن ثّم عبدوا طرقًا تجارية جديدة، وابتكروا أساليب أفضل أحيانا من أسلوب الدولة الصومالية في إدارة الاقتصاد، وما زالت الحركة التجارية الصومالية تواجه صعوابات نتجت عن غياب الدولة وسيطرة اقتصاديات الحرب على البلاد.

 

ثالثا- النتائج الاجتماعية والإنسانية

(أ) تفكك السلم الأهلي للمجتمع الصومالي والتمايز القبلي : غیرتالحروب والنزاعات الدامیة في الساحة الصومالیة وجه المجتمع الصومالي الموحد الذي كان یتقاسم الأفراح والأحزان فتحول إلى كیانات عشائریةتتشاجر فیما بینها دون مراعاة الروابط الدینیة والنسب والجیران، ولم یكنالصراع والنزاع على المستوى العشائري فحسب وإنما انتقل إلى البطون والأفخاذ حیث وصل إلى أبناء العمومة. وتشتت الأسرة الصومالیة وانقطعت أوصالها بحیث لم تعد أسرة متماسكة واحدة تعیش في مكان واحد، وانهارت العلاقات الاجتماعیة بین المجتمع حیث زالت الألفة والترابط القوي الذي كان یسود فیما بینهم وحل محله القطیعة والتنافر وعدم الثقة، كما تحولت العلاقات الأخویة والتعامل المتبادل بین المجتمع إلى عدوات سافرة وحساسیات دائمة. ونزحت كل عشيرة من المدن إلى القرى والبوادي التي تنحدر منها، فجرى تمايز بين العشائر.

(ب) النزوح والهجرة الواسعة: بدات الهجرة الصومالية أيام الطفرة الاقتصادية في الخليج العربي بحثا عن العمل في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وكانت هجرة بمثابة هجرة بحث عن العمل وحياة أفضل، ولكن الهجرة الحقيقية بدأت بعد الحروب الطاحنة بين النظام والشعب الصومالي في الثمانينيات.

وفي نهایة 1991 قدر عدد اللاجئين حوالي 60,000 لاجئ إلى الخارج وبضع مئات من الألوف نزحوا من مناطقهم إلى أماكن أخرى في الداخل بحثًا عن الأمان، ومن نوفمبر1991 إلى غایة فبراير 1992 اندلعت المعارك الشرسة بینعلي مهدي وعدید في مقدیشو حیث تم نسف وسط المدینة والبنیة التحتیةوالمرافق، ونتج عن القصف العشوائي المركز والمستمر لیلا ونهارا لمدة ثلاث أشهر حصد نحو 10,000 ضحیة أسبوعیا في مقدیشو، وأصبح ملیون طفل وأربع ملایین ونصف من الكبار مهددین بالموت من الجفاف والمجاعة، كما أنه في منتصف 1992 بلغ عدد اللاجئین المسجلین في كینیا وحدها 300 ألف وفي أثیوبیا 357 ألف، وفي جیبوتي 20الف، ونصف ملیون تقریبا هربوا إلى ٕ نجلترا والسوید والدانمارك البلدان التي لا تتخام الصومال وذلك ما بین أمریكاهولندا، وغیرهم من العالم الأوربي والأسیوي، وغالبیة هؤلاء المهاجرین لیسلدیهم نیة العودة إلى الوطن بل یحاولون في كل مرة أن یخرجوا ذویهم وأقاربهم من الوطن لیعیشوا معهم في المهجر وبطبیعة الحال هذا الانخفاض الحاد في عدد السكان یؤدي إلى أن تصبح الصومال منطقة خالیة من السكان أو یتضاءل سكانها بحیث لا یستطیع الباقون فیها الدفاع عنه().

وإذا كانت موجة الهجرة قد اشتدت في بداية التسعينيات بسسب عنفوان الحرب الأهلية، فيمكن القول بأنها لا تزال تستمر بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار في العقدين التاليين لانهيار الدولة، واتجهت الهجرة إلى الدول المجارة إيثوبيا وكينيا وجيبوتي بالإضافة الى أوروبا وأمريكا واستراليا، ويقدر عدد المهاجرين الصوماليين إلى الخارج أكثر من مليوني نسمة، ويعيش نصف هؤلاء في الدول المجاورة للصومال حسب احصائيات مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في عام 2015م (جدول رقم 6)

 

جدول رقم ( 6) المهاجرون الصوماليون في الدول المجاورة()

م

البلد

عدد اللاجئين

النسبة

1

كينيا

420,711

44%

2

ايثوبيا

247,711

26%

3

اليمن

249,061

26%

4

أوغند

32,447

3.4%

5

جيبوتي

12,044

1.2%

6

ارتيريا

2,672

0.3%

 

المجموع

964,646

100%

 

بالإضافة مليون ومائة الف نازحين داخل البلاد حسب التقرير السابق للأمم المتحدة ، يضاف إلى ذلك الأعداد الكبيرة التى هاجرت الى أوروبا وأمريكا وأستراليا.

(ج) انتشار المجاعة.

أما الفقر والمجاعة فشهدت البلاد فقرًا مدقعًا نتیجة الحروب الطاحنة والكوارث الطبیعیة مثل الجفاف، ففي عام 1991 وقعت أسوء موجة جفاف في القرن العشرین في الصومال ویقدر عدد من قضوا نحبهم بسببها بأكثر من 300 ألف نسمة، وقد خیم الجوع على أجزاء واسعة من البلاد وهي الموجة التي جاء على أثرها قوات الأمریكیة وأممیة في دیسمبر من العام نفسه بموجب قرار دولي من أجل حمایة الإغاثة وتأمین وصولها للمتضررین، وقد توالى بعد ذلك في الصومال سنوات أخرى من الجفاف اتخذت طابع الاستمرار، فبعد أن كانت تلك المواجهات متباعدة (كل عشر سنوات تقریبا) صارت في الأعوام الأخیرةشبه متواصلة”().

الباحث : حسن حاجي محمود عبدالله

يحضر رسالة الدكتورا عن الدولة الصومالية

 

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.