بقلم/ أ.د. عبد الرحمن باديو
قبل 48 عامًا ، وتحديدا في يوم 23 يناير 1975 ، وقع الشعب الصومالي في حالة من الصدمة بعد إعدام النظام العسكري لعلماء الدين العشرة البارزين. هؤلاء العلماء هبّو لنصرة الدين واحتجوا سلميا ضد قانون الأسرة المخالف للشريعة الإسلامية . وعلى الرغم من أن الصومال قد مرت بأحداث مأساوية مختلفة خلال الحكم العسكري ، إلا أن حالة إعدام العلماء كانت مختلفة تمامًا حيث كشف الإعدام الصورة الحقيقية لحكم العسكر وغيّرت مسار العلاقة بين الشعب والحكم وأدرك الناس بان الهدف من تنفيد حكم الإعدام كان حط دور الإسلام في حكم الدولة واخراجه من حياة المجتمع. وأعلنَ الرَّئيسُ محمد سياد بري إقرارَ هذا القانونِ في 11 ينايرَ من عامِ 1975 في خطابٍ عام ألْقاهُ في ملعبِ مقديشو وقصد من ورائه تحقيقِ “المُساواةِ بينَ الرجلِ والمرأةِ” حتّى في قضايَا الإرْثِ.
وقد فاجأَ الخطابُ الشَّعبَ وتسبَّبَ في خيْبةِ أملِه الآخذة في الازدياد بعد ذلك الحين. ومع ذلكَ، كانَ ردُّ الفعلِ الشَّعبيِّ مُتردِّدًا وحذِراً نتيجةً للحضورِ الطّاغِي لجهازِ الأمنِ وتعسف تصرفاته المتهورة . لكنْ، بعدَ مرورِ خمسةِ أيّامٍ، وفي يوم 16 ينايرَ، اجتمعت عدد من العلماءِ البارزين فانتقَدُوا القانونَ صراحةً من على منبرِ مسجدِ عبدِ القادرِ الشَّهيرِ في مقديشو والقريب للقصر الرئاسي . وكانَ انتقاءُ المكانِ والتَّوْقِيتِ حكيما ودقيقا إلى حدما ، ومثلّ المسجد بُؤرةَ لظهورِ الحركةِ الإسلامويَّةِ، حيثُ واظبَ الشَّيخُ محمد معلم على حلقة لتفسيرِ القرآنِ. وقد نجمَ عن هذا أنْ دفَعَ النِّظامُ جهازَه الأمنيَّ مباشرةً لاعتقالِ هؤلاءِ العلماءِ، إلى جانبِ مئاتِ النّاشطينَ والمُتعاطِفينَ. وتلا ذلكَ أنْ قامتْ محكمةُ الأمنِ القوميِّ في يومي 18 و19 ينايرَ بمحاكمةِ العلماءِ المُعتقَلينَ وحكمتْ عشرةٍ منهم بالإعدامِ وستة منهم بالسَّجنِ لمدَّةِ 30 عامًا كما تمّ حكم 17 آخَرينَ بالسَّجنِ لمدَّةِ 20 عامًا.
ففي 23 ينايرَ من عامِ 1975، وفي أكاديميَّةِ الشُّرطةِ في مقديشو، نفَّذَ النِّظامُ العسكريُّ حُكمَ الإعدامِ بحقِّ العلماءِ العشرةِ وهم:
الشَّيخُ أحمد شيخ محمد، علي حسن ورسمي، حسن عيسى علبي، الشَّيخُ أحمد ايمان، الشَّيخُ موسى يوسف، محمد سياد حرسي، علي جامع حرسي، آدم علي حرسي، سليمان جامع محمد وياسين علمي عول.
استُلهِمَتْ فكرةُ قانونِ الأسرةِ الجديدِ من القرار رقم 3010 الذي تبنته الأمم المتحدة في 18 ديسمبرَ عامِ 1972م واعتبر عامَ 1975م عامَ المرأةِ العالميَّ . ويدعُو القرار كلَّ الدولِ الأعضاءِ إلى دعمِ المساواةِ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ. وفي وقتٍ لاحقٍ، أتاحَ النِّظامُ العسكريُّ فرصًا جديدةً للنِّساءِ الصُّوماليَاتِ كيْ يرفعْنَ أصواتَهنَّ عاليًا ولِيشاركْنَ في برامجِ التوعوية الشَّعبيَّةِ ذات الطابع الثَّوري . وقد باتَ وجودُهنَّ ملحوظًا في الشَّأنِ العامِّ لا سيَّما في مراكزِ التَّوجيهِ الاشتراكيِّ. كما شاركْنَ بفعاليَّةٍ أكبرَ في برامجِ التَّعليمِ واحتلَلْنَ مناصبَ أرفعَ في الخدمةِ العامَّةِ واصبح ملفتا رؤية نساءً برُتَبٍ عاليةٍ بينَ الضُّبَاطِ في الجيشِ، كما عملْنَ كمديراتٍ عامّاتٍ وسفيراتٍ وأميناتٍ عامّاتٍ.
وعلاوةً على هذا، أَصدرَ النِّظامُ العسكريُّ حزمةً من القوانينِ المُخصصَّةِ لتعزيزِ دورِ المرأةِ مثلَ ضمانِ التَّساويِ في الأجورِ المدفوعةِ للوظائفِ المُتماثِلةِ وضمانِ إجازةِ أموميةٍ مدفوعةٍ الأجر وأبطل كذلك نظامِ الدِّيَةِ، وباتتْ عقوبةُ قتْلِ المرأةِ مساوِيةً لجريمةِ قتْلِ الرَّجلِ. كما عملَ النِّظامُ العسكريُّ، كذلكَ، على تأسيسِ مسجدٍ للنِّساءِ ليُظهِرَ التزامَه بتقدُّمِ المرأةِ في كلِّ المناحِي على اعتبارِ أنَّهنَّ لم يكنْ لديهنَّ مجالٌ لأداءِ الصَّلاةِ في المساجدِ التَّقليديَّةِ في الصُّومالِ. وأنشئ هذا المسجد قرب النادي الإيطالي والجامعة الوطنية ومقر المدينة في مقديشو. وكان الشيخ آدم شيخ عبد الله، العالم المعروف، هو من يلقي بمحاضرات تفسير القرآن في راديو مقديشو وهو من كان قيماً على حلقات التعليم الإسلامي للنسوة في المسجد. وقد تمَّ سَنُّ قانونِ الأسرةِ ذاكَ ضمن سياقِ البرنامجِ الاشتراكيِّ للنِّظامِ العسكريِّ الّذي كان قد نضجَ وقوِيَ خلالَ فترةِ السَّنواتِ الخمسِ ماقبل الاعدام .
والحقيقةُ أنَّ احتجاجَ العلماءِ السلمي مثَّلَ تعبيرًا أبيا وآنِيًّا وعكس الغضبِ الشعبي السائد وخيبةِ أمل المجتمع من قبل فلسفة النظام وحكم العسكر. وعلق الشَّيخُ عبدُ العزيزِ الذي كان من بعثةِ الأزهرِ في الصُّومالِ قد القانون في خطبةَ الجمعةِ وأوضح مخالفته الصريحة للشريعة الإسلامية. وقد انخرط علماء الأزهر في الأنشطة الإسلامية في الصومال وقاموا بالتدريس في عدة مدارس مختلفة في البلاد . وأُمِر الشيخ عبد العزيز بمغادرة الصومال خلال 24 ساعة بعد الواقعة. وبتحليلِ انتماءاتِ هؤلاءِ العلماءِ يظهرُ أنَّ معظمَهم كانُوا فقهاءَ تقليديِّينَ أو انتَمُوا إلى الطُّرقِ الصُّوفيَّةِ التَّقليديَّةِ. وكانَ مَنْ أشعلَ شرارةَ الاحتجاجِ هو الشَّيخُ أحمد شيخ محمد، وهو فقيهٌ معروفٌ من مدينةِ عينبا Ainaba في شمالِ الصُّومالِ، وكان هو ضيفا في المدينة ، حيث نزلَ إلى مقديشو بناءً على دعوةٍ تلقّاهَا من إسماعيل علي أبكر، العضوِ البارزِ في مجلسِ الثَّورةِ، فيما حضرَ العلماءُ الآخَرونَ إلى المسجدِ لأداءِ صلاةِ الجمعةِ. اعتَبرَ الشَّيخُ أحمد القانونَ تعَدٍّ على حدودِ اللهِ وطالَبَ البقيَّةَ برفعِ الصَّوتِ دفاعًا عن الشَّريعةِ. ونهَجَ علماءُ آخَرونَ النَّهجَ ذاتَه في إدانةِ قانونِ الأسرةِ ومعظمُهم لم يكنْ متاثرا في الصَّحوةِ الإسلامويَّةِ الّتي كانتْ حينَها في أُولَى مراحلِ تكونها . كما لم يكنْ من بينهِم علماءُ بارِزونَ ينتَمونَ إلى الصَّحوةِ الإسلامويَّةِ من أمثالِ الشَّيخِ محمد معلم والشَّيخِ محمد غريري والشَّيخِ عبدِ الغني،ولم يتواجدْ طلبةٌ ناشِطونَ من أتباعِ جماعةِ الأهلِ
يمكنُ تفسيرُ تبنِّي النِّظامِ لقانونِ الأسرةِ وإعدامِه للعلماءِ استنادًا إلى اعتباراتٍ الثلاثةٍ التالية : الاعتبارِ الأوَّلِ يقولُ إنَّ هذه الأفعالَ تمَّتْ بتوجيهٍ خارجيٍّ وإنَّ الأمرَ لم يتعدَّ كوْنَه تمثيليَّةً لاستعراضِ قوَّةِ النظامِ والتزامِه بالفكرِّ الاشتراكيِّ وتمّ في سياقِ مُنافستِه لإثيوبيا الماركسيَّةِ و التِماسِ الدَّعمِ من الدُّولِ الاشتراكيَّةِ واداء دور الصديق الحميم في المنطقة. والواقعُ يقولُ، إنَّ إثيوبيا اعتمدتِ البرامجَ الاشتراكيَّةَ وحصلَتْ على دعمٍ كبيرٍ من الكتلةِ الاشتراكيَّةِ في منافستِها للصُّومالِ، ولذلكَ، أرادَ أنْ يُثبتَ أنَّه “الاشتراكيَّ الأكثرَ إيمانًا بالفكرِ في منطقة القرنِ الأفريقيِّ والأجْدرَ بالدَّعمِ السَّخيِّ من البلدانِ الاشتراكيَّةِ”. واعتمدَ الاعتبارُ الثّانِي على الطُّموحِ الاستِبدادِيِّ للرَّئيسِ الصُّوماليِّ، حيثُ يَعتبِرُ بعضُ المراقِبينَ أن الخطوة كانت ضربةٌ استباقِيَّةٌ للحركةِ الإسلامويَّةِ الصّاعدةِ الّتي اعتبرَها النِّظامُ أحدَ “العدوَّيْنِ المُناهضَينِ للثَّورةِ”، في حينِ اعتَبَرَ القبليَّةَ العدوَّ الآخَرَ. وقد فُسِّرَ الإعدامُ الّذي تمَّ سابقًا في عامِ 1972م للجنرالِ محمد عيناشي جوليد والجنرالِ صلاد غبيري والكولونيلِ عبدِ القادرِ طيل على أنَّه ضربةٌ لمراكزِ القُوَى القبليَّةِ في الصُّومالِ. وعليه، حلُّ دورِ الإسلامويِّينَ في الاضطِهادِ المُبكِّرِ لإزالةِ كلِّ العوائقِ المُمكِنةِ الّتي تهدِّدُ البرامجَ الثَّوريَّةَ وِفْقَ خطَّةِ النِّظامِ وتعرقل تطبيق رؤيته العملية . والاعتبارُ الثّالثُ يقولُ إنَّ للخطوة لها ِ صبغةً إيديولوجيَّةً ويَفترضُ أنَّ تبنِّي قانونَ الأسرةِ وسحْقَ الإسلامويِّينَ يُعَدُّ جزءًا من المُهِمّاتِ التَّمهيديَّةِ الواجبِ إتمامُها قبلَ تشكيلِ الحزبِ الثَّوريِّ الاشتراكيِّ في الصُّومالِ، الّذي تأسَّسَ في عامِ 1976م ليُشكِّلَ تأسيسُه الطَّورَ الثّانيَ من الثَّورةِ في سعْيِها إلى ريادةِ المجتمعِ والتَّصدِّي لتحوُّلِه الاشتراكيِّ. وبالمُحصِّلةِ، كانَ القصدُ من تبنِّي قانونِ الأسرةِ وسحْقِ الإسلامويِّينَ هو تحقيقُ هدفَينِ في آن واحد : اعترافِ الدُّولِ الاشتراكيَّةِ بالنِّظامِ الصُّوماليِّ وإزاحةِ العوائقِ المَحلِّيَّةِ المُمكِنةِ من الطَّريقِ.
ترافقتْ حملةُ التَّنكيلِ بالإسلامويِّينَ بعدَ إقرارِ قانونِ الأسرةِ بسَجنِ معظمِ العلماءِ البارزينَ أو هروبِهم من البلادِ إلى المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، ليَنتجَ عن ذلكَ تفتُّتُ الصَّحوةِ الإسلامويَّةِ الّتي حافظتْ على وحدةِ فكرِها وقيادتِها حتّى ذلكَ الحينِ، وبدأَ الفكرُ المُتطرِّفُ يُطلُّ بقوَّةٍ وتغذي بقسوةُ النِّظامِ في تعاطِيه مع العلماءِ ودعْمُ الأنظمةِ العربيَّةِ المُحافِظةِ للإسلامويِّينَ وتواصُلُها مع مختلِفِ وجوهِ الحراكِ والفكرِ الّتي بدَّلتِ المشهدَ الإسلاميَّ في الصُّومالِ. ويمكن اعتبار إعدام علماء الإسلام في 23 يناير 1975 السبب الجذري لبداية التطرف المتمثل في حركة الشباب وداعش الفاعلين في الصومال حاليا . والطبيعة القمعية للدولة وفرض قوانينها غير الإسلامية ،خلقت جماعات معارضة تتبنى التطرف والعنف نهجا لتحقيق أهدافها واستراتيجتها العملية كما نرى في كثير من الدول الإسلامية بشكل عام والصومال بشكل خاص . وللأسف فإن الحركات الإسلامية التي تسعى تطبيق الشريعة في الدولة والمجتمع في الصومال لم تحيي ذكرى هذا الحدث التاريخي المهم للغاية. لذلك، ومن الآن فصاعدًا ، ينبغي على جميع المنظمات الإسلامية والطرق الصوفية على إحياء ذكرى هذا الحدث كل عام لتكريم نضال هؤلاء العلماء ومنع تكرار أحداث مماثلة في المستقبل وغرس ذاكراهم بين النشأة الجديدة والأجيال الصاعدة التي ستتولى حكم البلاد في الفترة المقبلة
تعليقات الفيسبوك