مقدمة
مع خروج التيار الجهادي من رحم الجهاد الأفغاني في مطلع التسعينات برؤية مشوشة ونسيج تنظيمي هش، مهَّـد ميلاد العولمة واتضاح ملامح نظام القطب الأوحد الأرضية لنشوء تنظيم القاعدة بخطابه المعولم الذي وحد الأجنحة المختلفة للتيار الجهادي في المعركة ضد النظام العالمي.
وكان التفاعل بين التيار الجهادي الصومالي مع الجهاد العالمي في تلك الفترة المبكرة قد أثمر بذور حركة الشباب المجاهدين، فالروافد التي انصبَّت منها جميع مراكز القوى المتحدة ضمنها يمكن تتبع أغلبها إلى فترة الجهاد الأفغاني وحتى تسعينات القرن المنصرم وبداية الألفية.
ومع بروز ظاهرة تنظيم الدولة التي وصلت تأثيراتها لمجاهيل ننجرهار في أفغانستان وجبال شمال القوقاز وغابات نيجيريا، لم يكن للصومال أن يكون بمعزل عن مفاعيلها، فقد شكلت هذه الظاهرة أزمة أخطر بكثير على حركة الشباب من ثورة قيادات الصف الأول على الأمير مختار أبي الزبير سنة 2013، ومن انشقاق معسكر راسكمبوني منها في كسمايو سنة 2009، فهذه الأزمات تم تجاوزها بسهولة نتيجة تعلقها بنخب ورموز تم إخضاعهم أو تحييدهم، بينما اتخذت أزمة تنظيم الدولة شكلا أفقيا غير منظم يصعب معه الحسم بصورة سريعة.
مدخل إلى تنظيم الدولة:
برز القيادي الأردني الشاب أحمد فضيل الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) ضمن هامش الجهاد الأفغاني، وهو صاحب نظرة متمايزة عن أجنحة الجهادية العالمية الكلاسيكية كالتيار المصري والليبي الأكثر براجماتية بفعل الخبرة الطويلة والصعبة، وخريجي مدرسة الجهاد الأفغاني المتماهين مع فكر الشيخ عبد الله عزام المتسم بالأممية وتصفير المشاكل الداخلية لصالح المعارك الكبرى.
تأثر الزرقاوي خلال نشاطه على هامش الجهاد الأفغاني بمنظري التيار السلفي الجهادي الأشد تصلبا؛ وهما الفلسطينيان عصام البرقاوي (أبي محمد المقدسي) وعمر محمود عثمان (أبو قتادة الفلسطيني)؛ لكن التأثير الأكبر على بنائه الشرعي والقتالي كان للمصري عبد الرحمن العلي (أبي عبد الله المهاجر) الذي شكَّلت تأصيلات كتابه “فقه الدماء” الأساس الفقهي لشبكة التوحيد والجهاد(1) التي تأسست نواتها الأولى عام 1999 بمنطقة هيرات الأفغانية، قبل أن ينتقل الزرقاوي بها إلى كردستان العراق بعد اجتياح التحالف الدولي لأفغانستان.
مثَّل غزو العراق فرصة ذهبية للتيار الجهادي، فبعد الضربات العنيفة التي تعرض لها في محاضنه بجبال الهندكوش؛ أتى الغزو الأمريكي للعراق موفرا فرصة حشد جماهيري غير مسبوقة وراء القضية الجهادية، افتقدها التيار مع انسدال الستار على الجهاد الأفغاني.
لقد نجح الزرقاوي في تصدر المشهد الجهادي العراقي بشكل سريع، واتسمت استراتيجيته – إلى جانب مواجهة القوات الإمريكية – باستثمار الورقة الهوياتية الطائفية بغرض تفجير حرب أهلية سنية شيعية، هنا لعبت الهيمنة الشيعية المسندة من النفوذ الإيراني – والتي عملت على تهميش السنة وعزلهم تحت إشراف ورعاية الإدارة الأمريكية(2) – لعبت تلك الهيمنة دورا في تجذر خطاب الزرقاوي الهوياتي الجهادي داخل الوسط السني، وبالتبعية حاز الزرقاوي شرعية غير مسبوقة في الوسط الجهادي العالمي، غطى فيها على مراكز القوى الجهادية الأخرى.
القاعدة والزرقاوي؛ والتباين المنهجي:
إضطرت القاعدة في تلك الفترة للوصول لصيغة تفاهم مع الزرقاي بغية إيجاد موطئ قدم تنظيمي في المعركة المستعرة في قلب العالم العربي، وانتهت مباحثات الجانبين إلى إعلان بيعة الزرقاوي لأسامة بن لادن وتغيير اسم جماعة التوحيد والجهاد إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.
لم يعن هذا اتفاقا في الأفكار والتأصيلات الشرعية بين الطرفين ولا حتى تماهيا في استراتيجيات الصراع بينهما بقدر ما عنى ضرورة مرحلة، إذ سرعان ما ظهر السجال على الواجهة في رسائل بين الطرفين كان أولها رسالة من الزرقاوي قبيل إعلانه البيعة لابن لادن نشرتها السلطات الأمريكية في فبراير 2004، شدد فيها على أولوية قتال “الطوائف المرتدة” – يعني الشيعة – على الأمريكيين ويحسم فيها مسألة تكفيرهم(3).
كما مثلت كل من رسالة الدكتور أيمن الظواهري إلى الزرقاوي المؤرخة بصيف عام 2005 (4) ورسالة عطية الله الليبي له أيضا في ديسمبر 2005 (5)، احتجاجا من تنظيم القاعدة على سياسات فرعه الجديد ومحاولة مستميتة لإيجاد حل لمعضلة التناقض في الرؤية الإستراتيجية والشرعية بين الطرفين.
بعد مقتل الزرقاوي بشهور أعلن رفاقه عن ميلاد دولة العراق الإسلامية في استمرار لمسار الزرقاوي، غير أن “عرقنة” التنظيم زادت بشكل أكبر لتصبح “المسألة السنية” هي الفكرة المحورية لخطابه، كما استمر في تصلبه الإيديولوجي الذي ساهم في استعداء فصائل المقاومة السنية عليه وحاضنته الشعبية فيما عرف بـ “الصحوات”(6).
لكن التنظيم لم يمكث طويلا في العزلة التي فرضتها عليه تلك الحملة الشرسة، حيث عاود الإنتشار وإعادة التموضع داخل المناطق السنية مع بدء الإنسحاب الأمريكي، وازدياد تسلط الحكومة العراقية على الطائفة السنية، ثم تزامن ذلك مع انفتاح باب العسكرة على مصراعيه في الثورة السورية ضد نظام الأسد، فاستغلت دولة العراق الإسلامية هذا الظرف بالتنسيق مع تنظيم القاعدة المركزي، فنشأت على أساس هذا التنسيق جبهة النصرة لأهل الشام.
أرادت القاعدة تجنيب التجربة الجهادية الوليدة في سوريا مسار الزرقاوي وسعت عبر ذلك للتخلص من إرث التجربة العراقية المحرج، ولكن الفرع العراقي لم يكن يرى في دخوله لسوريا سوى امتداد لمشروعه، ولذلك انفجر الخلاف على وسائل الإعلام بين الطرفين، لينتهي إلى المفاصلة التنظيمية ومن ثم المواجهة الشاملة.
الجهادية الصومالية؛ جذور النشأة وازدواج المسارات(7):
تعود جذور التيار الجهادي الصومالي إلى نهاية ثمانينات القرن الماضي مع مشارفة دكتاتورية سياد بري على الإنهيار، حيث اتخذ منذ أيامه الأولى مسارين متوازيين ومتداخلين في الوقت نفسه، مسار الجهاد المعولم من خلال أفراد قلة شاركوا في الجهاد الأفغاني والدوائر المتأثرة بهم، والمسار الجهادي المحلي عبر تنظيم الإتحاد الإسلامي؛ الإطار الجامع للتيار السلفي على اختلافاته حينها.
لم يكن تمايز المسارين واضحا أيامها لدى الأغلب، إذ غطى الإطار التنظيمي العام والجامع على أي فروقات بين المدرستين لغير المختصين، لكن تتبع مسارات الأحداث وشهادات من عاصروها تكشف لنا عن اختلاف واضح بينهما منذ البداية.
افتتح أول معسكر جهادي في الصومال من قبل شباب الإتحاد بكسمايو في فبراير 1991 فور انهيار حكم العسكر، وتتابع تأسيس المعسكرات بصورة دراماتيكية في كل من طوبلي، وراسكمبوني، ومركا، ومقديشو، وقو، إلى جانب محافظة جذو، واللافت للنظر أن جل قيادات الإتحاد ومن ضمنهم المسئول العام في تلك الفترة الشيخ علي ورسمه تواطؤوا على تقرير أن “موجة فتح المعسكرات لم تكن توجها مؤسسيا ومنهجيا نحو العسكرة بقدر ما كانت تعاملا مع الأمر الواقع؛ واقع فوضى الجبهات القبلية وأمراء الحرب، إلا أنها تطورت لتتحول لحالة مركزية في سياسة التنظيم”.
تميزت تجارب الإتحاد الإٍسلامي بالتوسع والإنحسار الدراماتيكي السريع نتيجة للمطبات العشائرية والمناطقية المتفجرة، كما تميزت أيضا بالمعارك غير المخططة نتيجة لما يمكن أن نسميه بـ “المراهقة التنظيمية”، وغالبا ما كان يتبع ذلك تلاوم واتهام متبادل بالتقصير والتسرع داخل مراكز قوى التنظيم، ولهذا السبب تفكك معسكر كسمايو بعد أشهر من انطلاقه إثر معركة أراري، وتعرض معسكر “قو” الذي توسع نحو ميناء بوصاصو لضربات دامية، أجبرت الوجود الجهادي على الإنحسار نحو منطقة لاسقوري بالساحل.
التقاطع مع الجهادية العالمية والفرز:
تثبت وثائق تنظيم القاعدة(8) أن أول تواجد لعناصر القاعدة في الصومال يعود لسنة 1992، وانصبَّ تركيزه حينها على دعم الإتحاد الإسلامي ومعسكراته بالمدربين، لكن تلك العلاقة لم تتخذ شكلا عميقا بسبب التباين الواضح في الإٍستراتيجية الحركية بين القاعدة (الجهاد العالمي) والإتحاد (الجهاد القطري المحلي).
لكن مع مرور الوقت أنشأت القاعدة تحالفا أعمق مع طرفين على هامش الإتحاد الإسلامي، أحدهما مجموعة حسن تركي في محور الجنوب الأقصى، الذي أثمرت العلاقة معه عن تجهيز أول معسكر جهادي معولم في الصومال، وثانيهما مجموعة القيادي عبد الله أحمد سهل بمحور مقديشو، والتي لعبت دورا خطيرا في ضرب القوات الأمريكية بمعارك مقديشو(9) وشكلت لاحقا أولى بذور تجربة حركة الشباب المجاهدين.
مثـَّل تأسيس معسكر صلاح الدين في يناير 2005م على أنقاض المقبرة الإيطالية شمال مقديشو “اللحظة الفارقة” التي بدأت فيها المرحلة التأسيسية لحركة الشباب. فقد أشرف أعضاء سابقين في مجموعة عبد الله أحمد سهل على تدمير المقبرة وإقامة المعسكر، منهم آدم حاشي عيرو وعمر ديري (أبو جبل) إلى جانب أفراد آخرين أقدم تجربة كمختار أبي الزبير.
ويمكن القول بأن جزءا مهما من النواة الصلبة للحركة اليوم قد تشكل في فترة معسكر صلاح الدين، حيث شكل المعسكر إضافة لمعسكر راسمكبوني(10) قطبا ثانيا للعنصر الجهادي المعولم الذي شارك في معارك سيطرة اتحاد المحاكم على مقديشو ومدن الجنوب عامة.
ويجدر الإنتباه إلى أن العنصر الجهادي المعولم لم يكن له دور يذكر كتيار متمايز في تأسيس المحاكم في مرحلتها الأولى سنة 1998 وفي مرحلتها الثانية بعد فشل مبادرة عرتا، بل شكل إحدى القوى الضاربة بعد اندلاع معارك الحسم العسكري بمقديشو في مارس 2006، ولهذا بالتحديد كان بإمكان هذا العنصر الدخول في تشكيلات ومجالس المحاكم الإسلامية.
وعلى أي حال فقد أُعلن عن ولادة حركة الشباب في أغسطس من نفس العام بدافع من التمايز الحركي عن الطيف الواسع الذي ضمه اتحاد المحاكم المختلف منهجيا وفكريا عن القوى التي أسست التنظيم(11).
لقد مثل التنظيم الوليد مظلة جامعة لتيار الفكر الجهادي المعولم، إبتداء من مجموعة محكمة عيل جرس مرورا بمجموعة معسكر صلاح الدين، إلى كتيبة راسكمبوني، وأفراد وقطعات عسكرية انشقت عن تشكيلات أخرى ضمن اتحاد المحاكم، ومن ثم بدأت في إدارة عمل نوعي بالإستناد إلى موروث معسكرات أفغانستان، وظل متمايزا ومختلفا عن النشاط العسكري لغيرهم من فصائل اتحاد المحاكم الإسلامية.
ورغم تعرض الحركة منذ تأسيسها لهزات عنيفة – ليس آخرها تصفية الولايات المتحدة لأميرها ورجلها القوي مختار أبي الزبير(12) – إلا أن تماسكها قد فاجأ المراقبين، كما أنها تمكنت من البناء على قضايا لا تنتمي للمحيط الحيوي الصومالي، بما يتضمن ذلك من توظيف لها واستثمار فيها وتجنيد على أساسها، كمظلوميات مسلمي تنزانيا وكينيا ومشاكل الجالية الصومالية الأمريكية المتعلقة بالإندماج وغير ذلك.
وقد كسبت الحركة بفضل ذلك ظهيرا غير متناه من مهاجري شرق أفريقيا وحواضنها الشعبية، عوضها عما خسرته جراء إخراجها من حواضنها التاريخية في مقديشو وجنوب البلاد، إلى جانب ما أفقدها “الجهاد الشامي” من زخم بعد أن كانت تتربع على عرش ساحات الجهاد العالمي من حيث اجتذاب المهاجرين من أنحاء العالم.
اختراق تنظيم الدولة للجهادية الصومالية:
قلبت دولة العراق الإسلامية الطاولة على الحركة الجهادية العالمية وعرابها تنظيم القاعدة، بعد إعلان البغدادي انقلابه على الجهاد السوري الذي أرادته القاعدة تجربة جديدة لا يتم فيها تكرار أخطاء العراق(13)، وذلك بإعلانه الدولة الإسلامية في العراق والشام، ومع ازدياد حدة الصراع وإعلان التنظيم عن خلافته انفجرت التباينات المنهجية التي ظلت طي الكتمان لسنوات، ليجد التيار الجهادي نفسه أمام مفترق طرق صعب.
فكثير من استراتيجيات تنظيم الدولة تحولت بالفعل إلى منهج وسائلي معتمد لدى بعض فروع القاعدة – وأولها حركة الشباب – كما أضحت أسلوبا مقبولا عند عموم أنصار التيار وناشطيه، لكن تنظيم القاعدة وجد نفسه مضطرا للإنتصار لمثالياته التي اختفت من أذهان أجياله المتأخرة، في محاولة صعبة للثبات أمام تهديد وجودي.
لقد تغول التنظيم على الساحة العالمية بشكل لا مثيل له، ونجح في اجتذاب أعداد هائلة من المهاجرين حول العالم لدرجة تخطيه زخم القاعدة وفروعها، ذلك الزخم الذي طالما احتفظت به في مجال تجنيد المقاتلين الأجانب، ولم تكن الصومال بمنأى عن هذا، فحركة الشباب التي بدت في البداية معزولة عن انقلابات الموازين هذه، وجدت نفسها أمام إشكال عسير.
فقد كانت من جهة على علاقة عضوية تاريخية مع القاعدة عكس تنظيمات أخرى كأنصار بيت المقدس في سيناء وبوكو حرام في نيجيريا (بل وحتى جماعة الزرقاوي في العراق)، لكن في الجهة الأخرى تربعت الحركة على الطرف الأقصى في مؤشر التشدد الوسائلي من بين جميع فروع القاعدة بعد دولة العراق الإسلامية وأسلافها، ما شكل تقاربا في وجهات النظر بين أطياف واسعة بالحركة مع البغدادي وجماعته.
ورغم تكهنات المراقبين المتضاربة فقد ظهر – منذ وقت مبكر – حسم حركة الشباب لموقفها من الأمر؛ إذ احتج أميرها مختار أبو الزبير على نقض وإسقاط تنظيم الدولة للمرجعيات الجهادية التقليدية الحركية والشرعية، مطالبا بترك الأمور لهم، وداعيا “لاحترامهم وإحسان الظن فيهم والعرفان لهم بالفضل”(14)، وذلك في أول تعليق منشور له حول اقتتال تنظيم الدولة والقاعدة في سوريا. ولا يستبعد استحضاره تلك اللحظة للإهانات التي كان يتعرض لها أيمن الظواهري من قبل الناطق الرسمي باسم الدولة أبي محمد العدناني وأنصار التنظيم على الشبكات الإجتماعية.
ولكن إدانة قيادة الشباب الصريحة “لتصرف الدولة” كشف عنها أيمن الظواهري خلال تعزيته في مقتل أبي الزبير، إذ تلى سطورا من مراسلة خاصة بينهما يقول فيها الأخير “قضيةُ تصرفِ الإخوةِ في الدولةِ نسألُ اللهَ أن يسامحَ الإخوةَ ويردَهم إلي الحقِ، فمثلُ هذه التبريراتِ لمخالفتِهم لم تكن متوقعةً من أمثالِهم، وخاصةً ونحن ندَّعي ليلَ نهارَ السعيَ لعودةِ الخلافةِ الإسلاميةِ، التي تضمُ المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وأرجو شيخي أن تصبرَ لهم، وتعفوَ عنهم، وتستوعبَ قصورَنا جميعًا، وتحاولَ الإصلاحَ والتدارك”(15).
لكن هذه الرؤية كانت بمعزل عن عالم الأفكار في قواعد الحركة، التي كان كثير منها يرى في تنظيم الدولة تطورا نوعيا لحركة الجهاد العالمي وتجسيدا أعمق للميراث النظري للتيار، وهذا الواقع أتى نتيجة انعدام التماهي الفكري العملي مع جذور حركة الشباب الممتدة داخل تجربة القاعدة، فالإنتساب العضوي لم يستتبع تشربا تاما لفكر القاعدة السياسي، بل إن الحركة لم تخضع كثيرا في سياقاتها الخاصة لتأثيرات القاعدة.
هذا الإفتراض يدعمه إلى حد كبير تصور مسئول القاعدة في شرق أفريقيا فاضل هارون القمري عن الحركة الجهادية الصومالية الوارد في مذكراته غير المكتملة، إضافة لحقيقة عدم نجاحه في التأثير على واقعها لظروف موضوعية اتصلت بانهماكه في إدارة ملف القاعدة في أفريقيا. كما يمكن البرهنة عليه بفشل القاعدة في منع التطهير الذي نفذه أبو الزبير داخل الحركة والذي راح ضحيته قيادات ذات علاقة حميمة تاريخية بالقاعدة ورموزها.
وبحسب الإستقراء(16) فإنه قبل دخول الصومال في معترك الإنشقاقات والبيعات، كانت الكثرة الغالبة من الحسابات الجهادية الصومالية على موقع تويتر مؤيدة لتنظيم الدولة، وبحسب مصادر مطلعة فإن جل حسابات إعلاميي حركة الشباب النشطة كانت مؤيدة لتنظيم الدولة، وظل كثير منهم على موقفه حتى بعد تجديد الحركة لبيعتها مع الدكتور الظواهري بعد تنصيبها خليفة أبي الزبير.
وعزز من ثقة هذا الطيف الواسع المؤيد لتنظيم الدولة تصريح الشيخ حسان حسين – المنظر الجهادي الصومالي البارز وصاحب الثقل الكبير – بصحة خلافة البغدادي وبطلان بيعات التنظيمات الأخرى(17).
ومن جهة أخرى لم يتوقف إعلام الحركة الرسمي ممثلا بإذاعة الأندلس، والمؤسسات الدائرة في فلكها، عن بث انتصارات تنظيم الدولة وعملياته في كل من العراق وسوريا، في محاولة لإمساك العصا من الوسط، مع التمسك بالولاء للقاعدة، تفاديا لاستجلاب النزاع إلى داخل صفوفها.
ثم سمحت الحركة لعدد كبير من مهاجريها المؤيدين لتنظيم الدولة – من شمال أفريقيا والغرب – بالرحيل والإنضمام لولايات التنظيم في شمال أفريقيا واليمن، وذلك نزعا لفتيل انشقاقهم المحتمل داخل الصومال رغبة في تأسيس ولاية تابعة لتنظيم الدولة.
لكن أنصار تنظيم الدولة وإعلامه الرديف دشن حملة ترويجية على مواقع التواصل الإجتماعي تحت وسم #أيها_المجاهد_في_الصومال، أتبعها إعلام ولايات التنظيم الرسمي بموجة من الإصدارات لا تزال مستمرة حتى تاريخ كتابة هذه الورقة تدعوا جنود حركة الشباب للإنشقاق ومبايعة التنظيم.
بدأ بعدها مباشرة تسرب أنباء عن تشديد الحركة لإجراءات الخطابة في المساجد، وحظرها الحديث عن موضوع الإرتباط والبيعة في التجمعات، وبدا بشكل واضح أن التوتر بلغ مداه مع اعتقال عدد من المهاجرين لعدم التزامهم بذلك، لكن عبد القادر مؤمن – الذي شرعت الحركة بتصديره كرمز شرعي في إصداراتها – فجر قنبلة غير متوقعة بإعلان مبايعته مع مجموعة من مقاتلي الشباب في مرتفعات غلغلا لأبي بكر البغدادي في تسجيل صوتي، لتتبعه موجة انشقاقات أخرى في الجنوب وتصبح حركة الشباب أمام مأزق داخلي جديد وخطير.
العقبات والرياح المواتية أمام تمدد تنظيم الدولة:
لم يكن الصف الداخلي لحركة الشباب في وضع مثالي، إذ أن إرث سياسات أميرها السابق مختار أبي الزبير لا زال حيا وفاعلا، فالمهاجرون لا زالوا تحت وطأة تسلط الأمراء الصوماليين، والمظالم الداخلية التي طالت كل من لم يساير الحركة في نهجها ظلت على نفس المستوى(18)، وهذا جعل كثيرا من ضحايا هذه السياسات – ممن لم يتوفر لهم الأساس الإيديولوجي للنفور من تنظيم الدولة – يرون في الإنضمام له حلا لمظلومياتهم، خصوصا مع الإنبهار ببروباغندا التنظيم الجبارة.
إضافة إلى ذلك شكلت داعش تجسيدا واقعيا لتصور طائفة عريضة من أعضاء الشباب عن تطبيق الشريعة والجهاد والحكم الإسلامي، وأصبحت العبارة الأكثر تكررا في السجالات الإلكترونية بين أنصار تنظيم الدولة ومعارضيه أنه “إن كان يسوغ قتل أبي منصور الأمريكي والزيلعي، فلم لا يسوغ قتال جبهة النصرة ومن دونها من الفصائل في سورية؟!”.
ورغم نجاح تنظيم الدولة في اختراق قواعد الحركة الجهادية، إلا أنه فشل في اختراق القيادة، إذ لعب الإنتماء العضوي إلى القاعدة والعلاقة التاريخية الحميمة معها دورا في ثني قادة الحركة عن الإنضمام لتنظيم الدولة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن العقلية البراغماتية القوية لتلك القيادات كانت كافية لقناعتهم بإبقاء موضوع الإرتباط الخارجي على حاله، فتجربة داعش لم تطَّرِد بعد ولا يمكنها حتى الآن إدعاء الهيمنة على الشرعية الجهادية العالمية، كما وأن العمق التاريخي لحركة الشباب في الجهاد العالمي ليس أقل من تنظيم الدولة نفسه، فمؤسسوها ينتمون إلى لب سياق تجربة القاعدة الممتد إلى الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، السياق الذي انتمى جذر تنظيم الدولة – شبكة الزرقاوي – إلى هوامشه.
أضف إلى ذلك كله ما تميزت به حركة الشباب من إستقلالية عن التوجيه الخارجي، بحيث لم يبد منها منذ تأسيسها أي ميل للرضوخ لإملاءات سلطة خارجية، بما في ذلك توجيهات تنظيم القاعدة نفسه. كل ما سبق يقلل من إمكانية انتقال حركة الشباب إلى معسكر تنظيم الدولة.
وعلى أي حال، فإن الجيوب المنشقة لم يحسم مصيرها بعد رغم الحملة الأمنية والعسكرية الشرسة التي تشنها عليها الحركة في جبهة شمال الشرق (بونتلاند) وفي الجنوب، والتي راح ضحيتها العشرات من المقاتلين، منهم على الأقل قياديان مبايعان لتنظيم الدولة(19).

خاتمة:
تسبب تنظيم الدولة في حالة انشطار داخل التيار الجهادي، وتسبب في اضطرابات خَلَطَ فيها الأوراق على كل ما عداه من التنظيمات والحركات وحتى الثورات الشعبية، ولم يستثن في ذلك الصومال، التي بدت في فترات سابقة منعزلة عن تأثيرات الجهادية العالمية، وسجالاتها الفكرية والتنظيمية.
ورغم الهزة العنيفة التي تسبب بها إشكال الإرتباط الخارجي، إلا أن قيادة الحركة تبدو متماسكة من جهة، وثابتة الخطى في تعاملها مع الملف من جهة أخرى؛ ابتداء من تفريغ صفوفها من المهاجرين الراغبين بالهجرة إلى تجنب التورط في السجال الإعلامي مع الدولة وانتهاء باستخدام الوساطات والقوة الناعمة، بالإضافة إلى القوة الخشنة وعمليات “قطع الرأس” ضد المجموعات المبايعة لتنظيم الدولة.
لا يبدو أن حركة الشباب في وارد التضحية بولائها التنظيمي لغرض رفع فرصها في تجنيد مهاجرين، فاستثمار أمير الشباب السابق مختار أبي الزبير في قضايا مسلمي شرق أفريقيا أكسب الحركة روافد تجنيد ضخمة وتوسعا غير مسبوق نحو العمق الإقليمي، ما يجعلها في شبه حالة اكتفاء من روافد الهجرة العالمية التي قد يعد بها الإنضمام لتنظيم الدولة.
وبغض النظر عن ذلك كله، فإن إبقاء موضوع الإرتباط الخارجي على ما هو عليه يظل ملائما للجميع، فجزء غير يسير من القيادة لا زال مواليا للقاعدة على أساس من الإنتماء العضوي، وأي تغيير في الأمر من شأنه أن يتسبب بحالة انشطار حقيقي كتلك التي لحقت بالتيار الجهادي في المغرب الإسلامي وسوريا.
وإذا كان من غير المرجح حدوث أي تغيير في ولاء الشباب للقاعدة، فإنه لا يبدو على الجانب الآخر أن ظروف الساحة الصومالية التي تهيمن عليها حركة الشباب تسمح لتنظيم الدولة والمجموعات الموالية له بالتمدد داخل البلاد، ما دامت مراكز القوة المسيطرة على الحركة محافظة على مواقعها.

بقلم/ محمد الفاتح علي الشيخ
Faatih12@gmail.com

(1) كتاب “الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية” حسن أبو هنية و د. محمد أبو رمان، مؤسسة فريدرش إيبرت، عمان، ص 32.
(2) لنظرة أعمق حول مساهمة الإدارة الأمريكية في إشعال الحرب الطائفية شاهد وثائقي الغارديان: “حرب العراق الطائفية: جيمس ستيل .. رجل أمريكا الغامض: https://www.youtube.com/watch?v=_ca1HsC6MH0
(3) الترجمة الإنجليزية الرسمية للرسالة، أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، http://2001-2009.state.gov/p/nea/rls/31694.htm .
(4) رسالة الدكتور أيمن الظواهري إلى أبي مصعب الزرقاوي، نخبة الفكر، سبتمبر 2014: http://ia601402.us.archive.org/7/items/nkaba.repo/aym.msu.pdf
(5) رسالة من عطية الله الليبي إلى أبي مصعب الزرقاوي، نخبة الفكر، 2015: http://justpaste.it/ltn2 .
(6) راجع الفصل الأول من كتاب “الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية” حسن أبو هنية و د. محمد أبو رمان، مؤسسة فريدرش إيبرت، عمان.
(7) المعلومات المذكورة حول أحداث التسعينات وحتى اتحاد المحاكم الإسلامية مصدرها السلسلة الصوتية التي بثتها إذاعة صوت أمريكا/ الخدمة الصومالية باسم “جذور حركة الشباب المجاهدين” بتاريخ أغسطس 2011:
http://www.voasomali.com/content/barnaamijyo-soo-ifbixii-kooxda-al-shabaab-127459168/1252595.html
(8) الحرب على الإسلام – ج 1، مذكرات فاضل القمري، أمين سر القاعدة ومسؤولها بشرق أفريقيا، مركز دراسات قضايا العالم الإسلامي.
(9) أول شهادة تفصيلية حول عمليات مجموعة عبد الله أحمد سهل ضد القوات الأمريكية سنة 1993 للقيادي عمر ديري (أبو جبل) تم تسجيلها في حقبة المحاكم، ونشرتها مؤسسة الكتائب في ديسمبر 2015: https://www.youtube.com/watch?v=9zvBRMmgAWw&feature=youtu.be
(10) قد يصعب تصور أن معسكر راسكمبوني الذي يمثل أعضاؤه السابقون مكونا أساسيا في إدارة جوبالاند الموالية لإثيوبيا وكينيا والمناهضة لحركة الشباب في محافظات جوبا. كان أعرق مكون جهادي معولم في الصومال، وسبق في النشاط والتأهيل العسكري ما كان يطلق عليه الجهاديون “مجموعة مقديشو” أي: مجموعة آدم عيرو وأبو جبل ومختار روبو (أبو منصور) التي تأسست منها نواة حركة الشباب.
(11) شهادة أحمد محمد مذوبي في الحلقة الرابعة من سلسلة “جذور حركة الشباب” التي أذاعتها الخدمة الصومالية بإذاعة صوت أمريكا، أغسطس 2011، تكشف عن أن دافع تأسيس الحركة في المقام الأول كان شعور الشباب الجهادي بالتباين المنهجي الكبير مع رفاقهم في اتحاد المحاكم، حيث كان هؤلاء يمثلون مبادرة شعبية لم تستند لأكثر من إسلام شعبوي، والمناكفات التي كانت تندلع من رفض قيادات المحاكم وتنديدهم المتكرر لممارسات معينة من طرف أبناء التيار الجهادي كمهاجمة المزارات وحظر القات وتصفية صحفي غربي، هذه المناكفات دللت أكثر على حقيقة الإختلاف العميق بين التيارين.
(12) للمزيد حول تأثير اغتيال أحمد عبدي جوذني المعروف بـ (مختار أبي الزبير)، راجع ورقة الكاتب “حركة الشباب المجاهدين.. قراءة في الواقع والمآلات”، شبكة الصومال اليوم للإعلام، 16 سبتمبر 2014: https://www.somaliatoday.net/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/tabid/94/articleType/ArticleView/articleId/1547/—-.aspx#.VpbKpvl97IU
(13) مراسلات قيادة القاعدة في بداية عسكرة الثورة السورية تكشف عن رؤيتها واستراتيجيتها للصراع بما في ذلك عدم تكرار تجربة العرق. راجع رسالة ماجد الماجد أمير كتائب عبد الله عزام للقيادي في تنظيم القاعدة أبي يحيى الليبي: http://justpaste.it/kid0، ورسالة أبي يحيى الليبي للجولاني أمير جبهة النصرة: http://justpaste.it/k3ji ، نخبة الفكر، 2015.
(14) كلمة مسموعة بعنوان “مسلمو بانغي وممباسا.. قصة مأساة”، مؤسسة الكتائب، ديسمبر 2014: https://www.youtube.com/watch?v=FxxtHFOJnlg&oref=https%3A%2F%2Fwww.youtube.com%2Fwatch%3Fv%3DFxxtHFOJnlg&has_verified=1
(15) تفريغ الحلقة الأولى من سلسلة الربيع الإسلامي الصوتية، مؤسسة السحاب، سبتمبر 2015: http://justpaste.it/nlu1 .
(16) تابع الكاتب الحسابات الجهادية الصومالية على تويتر بين عامي 2014 و2105 وظهر له أن أقلية قليلة منها تعارض تنظيم الدولة، ويجدر بالذكر أنه بعد موجة الإنشقاق شهد تويتر تزايدا كبيرا في الحسابات المؤيدة لحركة الشباب المناهضة لتنظيم الدولة، ويمكن تفسير ذلك كرد فعل على شروع تنظيم الدولة بتشجيع ورعاية شق صفوف الحركة.
(17) ورد هذا التصريح خلال درسه اليومي في مسجده بنيروبي: https://www.youtube.com/watch?v=jVpn4_l3uKg .
(18) لخلفية عامة حول مشاكل الحركة الداخلية راجع تدوينة الكاتب: تجربة الشباب (4) .. الخلافات الداخلية: https://mohamedalfatih.wordpress.com/2014/04/06/alshabaab4khilafat/
(19) الشيخ حسن عبدي جيدي، نائب والي محافظة جوبا الوسطى السابق: http://m.voasomali.com/a/al-shabab-purge/3068955.html والشيخ بشير (أبو نعمان): https://twitter.com/HarunMaruf/status/664929618525310976 ، http://m.voanews.com/a/3053405.html

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.