المقدمة:
تزايدت أهمية الدساتير في الدولة الحديثة، بكونها أساس الدولة والوثيقة التي تنشئ هيئاتها الرئيسية، موضحة اختصاصات كل من السلطات الثلاث للدولة (الهيئة التشريعية، التنفيذية والقضائية)، ومبينة الحقوق والحريات العامة للأفراد والجماعات.
ظهرت الدساتير بسبب كبح جماح السلطة، ومنع الطغيان والنظام الاستبداي من قبل الحكام، وتثبيت الحقوق الأساسية والحريات العامة للمواطنين، لأن الدولة هيئة اصطناعية أنشأتها الجماعة بعقد اجتماعي عام، لحماية مصالحها وحقوقها الخاصة والعامة، وليس لانتهاك هذه الحقوق واستعباد المواطنين بسبب سوء استخدام السلطة من قبل الحكام.
من المعلوم أن السلطة شيء مستحوذ من قبل الجميع، وأن الإنسان أناني بطبعه يحب السيطرة على مقاليد الأمور والاستفادة من قوة السلطة لصالحه الخاص، وإخضاع الآخرين لرغباته ونزواته الشخصية، وإدارة البلاد حسب إرادته الفردية، واستبعاد الآخرين من المشاركة السياسية، ومنعهم من حقوقهم السياسية بغية التفرد في الحكم طيلة حياته، وربما لذريته بعد وفاته، ورغم أن ظاهرة الملكية المطلقة قد تقلصت في العصر الحديث إلا أنها ما زالت باقية في بعض الدول العربية، وأصبحت الجمهوريات الملكية ظاهرة في دول العالم الثالث، مما جعلها دولا مضطربة وفاقدة للنظام الدستوري المطلوب، والاستقرار السياسي المنشود.
ما زالت الشعوب في دول العالم الثالث وخاصة الإسلامية والعربية تكافح لأجل الحرية وإستعادة سلطتها المسلوبة من الحكام المستبدين الذين جثوا على صدورهم منذ زمن طويل، وفي اللحظة التي تنجح الشعوب باستعادة حقوقها المسلوبة وتتولى مقاليد بلدانها، يتحقق كل أهدافها في التنمية المستدامة والاستقرار السياسي المطلوب.
إن الصومال عانت منذ استقلالها وتكوين دولتها القطرية بعدم الاستقرار السياسي حيث بدأت بنظام برلماني متعدد الأحزاب، ثم نظام عسكري مستبد، ثم فوضى عارمة في 1990، وأخيرا إلى نظام فيدرالي جديد، وما زال يتخبط في التغييرات الدستورية المختلفة مما أفقدها بنظام دستوري ثابت.
سنسلط الضوء على التطورات الدستورية في الصومال منذ استقلاله إلى الوقت الحاضر، وبما أن الموضوع طويل ومتشعب ولا يمكن حصره بورقة بحث مثل هذه، إلا أننا نكتفي بإشارة مجالات محددة اخترناها لنعرف منحنى التطور والتغيير الذي طرأ على النظام الدستوري الصومالي، والأسباب التي أدت كل تغيير دستوري، والأثار المترتبة على الحقوق الأساسية والحريات العامة، والاستقرار السياسي والنظام الدستوري فيها.
وقد اخترنا أن نقارن الدستاتير والوثائق الدستورية الصومالية من جوانب محددة لنعرف مدى التقارب بين الإرادة الشعبية ومحتوى الوثيقة/ الدستور، وهي كالتالي:
1- كيفية إنشائه لنعرف مدى مشاركة الشعب في وضع دستورهم.
2- النظام السياسي، لنحدد مسيرة النظام السياسي وكيفة مساهمته في الاستقرار السياسي والأمني للبلد.
3- وأخيرا، عن المبادئ العامة والفلسفة القانونية التي اتبعها الدستور، وعلاقة الدين بمصادر التشريع، لنرى تقارب عقيدة المجمتع ومحتوى دستوره.
وقبل التطرق إلى الحديث عن الوثائق الدستورية الصومالية نعرّف الدستور، ونوضح أساليب وضع الدساتير المختلفة كتمهيد لورقة بحثنا.
تعريف الدستور:
يتبع فقهاء القانون الدستوري عند تعريف الدستور معيارين، أحدهما شكلي يعطي الأهمية في اجراءات اصدار وتعديل الدستور التي غالبا ما تختلف عن اصدار وتعديل القوانين العادية، والآخر موضوعي يعطي الأهمية بطبيعة القواعد الدستورية بغض النظر عن مكان ورودها واجراءات اصدارها، فاهتم بالمواضيع التي تتحدث عنها قواعد القانون الدستوري وهي القواعد المتعلقة بنظام الحكم واختصاصات الهيئات الدستورية، والحقوق والحريات.
وبما أننا نتحدث عن الدساتير الصومالية أي الوثائق الدستورية فإننا يهمنا هنا المعيار الشكلي، لأننا لا نتحدث عن القواعد الدستورية الواردة خارج الوثائق الدستورية الصومالية كالأعراف الدستورية والقوانين الأساسية وغيرها من القوانين التي احتوت بداخلها قواعد ذات موضوع دستوري حسب المعيار الموضوعي.
ولهذا، فإننا نعرّف القانون الدستوري كالتالي:
” مجموعة القواعد القانونية التي تتضمنها الوثيقة الدستورية – التي تضعها هيئة خاصة يطلق عليها اسم السلطة التأسيسية، ويتبع في وضعها وتعديلها اجراءات خاصة تختلف عن اجراءات القوانين العادية”(1).
بعد أن عرّفنا الدستور، نحاول أن نسلط الضوء على الأساليب المعروفة لوضع الدساتير، والتي تنقسم إلى أساليب ديمقراطية وغير ديمقراطية.
أولا: الأساليب غير الديمقراطية:
1- طريقة المنحة: هي أن يتفضل الملك (الحاكم) على رعاياه ويمنحهم دستورا بمحض ارادته حيث يتازل عن بعض صلاحياته الواسعة للشعب، ويترتب عن هذا أن كل الحقوق التي لم ينص عليها الدستور تكون من اختصاص الحاكم وله عليها سلطة مطلقة لا تخضع لأي قيود (2). ونشأ بهذا الأسلوب إعلان المبادئ الدستورية للصومال في عام 1949 حيث تم اصدارها من قبل لجنة الوصاية المعينة من الأمم المتحدة.
2- أسلوب العقد: في هذا الأسلوب لا ينفرد الحاكم بوضع الدستور، وإنما يشاركه الشعب، حيث يتم اصدار الدستور بواسطة عقد بين الحاكم ومملثين من الشعب، وهي خطوة إلى الأمام نحو الديمقراطية.
3- أسلوب الفرض: هذا الأسلوب ظهر مؤخرا خاصة في الدكتاتوريات كالنازية والفاشية والشيوعية، التي بدأت تصدر دساتيرها بالاستفتاء الشعبي أو مجالس منتخبة ومن قبل جمعياتها وحزبها الوحيد والتي تنال نسبة عالية من القبول، إلا أن هذه الاستفتاءات تتم غالبا على جو من الارهاب والقمع الشديدين، من قبل حزب متسلط أو فئة طاغية تجبر الشعب على التصويت بما يخالف ضميرها ومصالحها، فيصبح الدستور مفروضا حتى وإن نال قبول الشعب المزيف(1).
بهذا الأسلوب، أي أسلوب الفرض ظهر دستور 1979 الصومالي، حيث تم اصداره من قبل سلطة عسكرية تولت مقاليد الأمور بانقلاب عسكري، وتبنت الاشتراكية نهجا لسياستها في إدارة البلاد، وكانت الاستفتاءات والانتخابات تجري في جو يسوده القمع والارهاب، وكانت النتيجة دائما لصالح الحزب الاشتراكي.
ثانيا: الأساليب الديمقراطية لنشأة الدساتير:
1- أسلوب الجمعية التأسيسية: في هذا الأسلوب يقوم الشعب بانتخاب مجموعة من الممثلين تقتصر مهمتهم بوضع الدستور، فتقوم بصياغة قواعده، والنقاش عليه، ثم باقراره أخيرا ويصبح دستورا نافذا، ولا يحتاج إلى استفتاء شعبي.
2- أسلوب الاستفتاء الدستوري: في هذا الأسلوب يصوت الشعب بشكل مباشر على الدستور، بعد أن تقوم جميعة تأسيسية منتخبة بصياغتة وتحريره والتصويت عليه، وهو أكثر أساليب إنشاء الدستاير ديمقراطية. وبه تتم وضع الدساتير في غالبية دول العالم في الوقت الراهن.
ومن الدساتير التي أنشئت بهذا الأسلوب، دستور الصومال 1960، حيث عرض على الشعب باستفتاء عام ونال موافقة الشعب، وأعلنت نتيجة الاستفتاء في الخامس والعشرين من شهو يونيو عام 1961.
الوثيقة الأولى: دستور 1960:
إن هذا الدستور كان نقطة تحول كبير من المجتمع البدائي إلى الدولة الحديثة، وفعلا قرر للشعب حقوقا كثيرة شخصية وعامة، كالحقوق السياسية مثل الحق في تولي الوظائف العامة، وحق التظلم، والحق في تكوين الجمعيات السياسية، وغيرها،……
والدستور حسم شكل الدولة الصومالية التي تأسست من الإقليمين الشمالي والجنوبي، بأن تكون دولة بسيطة موحدة، في مادته الأولى حيث قال: ” أن الصومال دولة مستقلة ذات سيادة وهي جمهورية ديمقراطية نيابية موحدة والشعب الصومالي شعب واحد لا يتجزأ”.
ولهذا أزاح هذا الدستور كل فكرة ترى أن يكون شكل الدولة الصومالية شكلا غير موحد، أو بعبارة أدق أن يكون شكل الدولة فيدراليا، وبما أن هذا الاتجاه الداعي إلى الفيدرالية كان غير قوي، إلا أنه كان موجودا حيث تبنته بعض الأحزاب في ذاك الوقت مثل حزب الدستور المستقل (حزب دجل ومرفلي) وأشار رئيس هذا الحزب السيد جيلاني شيخ بن شيخ في إحدى خطبه، أن حزبه مؤمن بأن الطريق الوحيد لجمع الصوماليين الذين تفرقوا إلى جماعات صغيرة بسبب النظام القبلي البدائي، هو وضع دستور يقوم على أسس لا مركزية أو فيدرالية ويكفل حكما ذاتيا ديمقراطيا للأقاليم الصومالية المختلفة. وأشار إلى أن هذا النظام يؤدي إلى تنافس الولايات فيما بينها، وإلى استغلال موارد الثروة على نطاق واسع، وأنه يعترض على أي نوع من المبادئ الدكتاتورية، التي تجعل الشعب كله يخضع لحزب واحد يخدعه باسم الوطنية(1).
وتم وضع هذا الدستور بأكثر الطرق ديمقرطية وهي طريقة الاستفتاء الدستوري حيث عرض على الشعب الذي وافق بأغلبية، كما أنه أوضح بأن الإسلام هو دين الدولة في مادته الأولى في الفقرة الثالثة، وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه أسس نظاما ديمقراطيا يقوم بالتعددية الحزبية.
ومن الملفت للنظر بأن دستور 1960 لم يتحدث عن لغة الدولة، وإنما سكت عنها، وهي الوثيقة الدستورية الصومالية الوحيدة التي لم تتحدث عن لغة الدولة الرسمية، وبما أن الدستاتير تترجم عن المرحلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تم إنشاؤها، فإن ذلك الوقت كان الصراع قائم على اللغة التي تصبح لغة رسمية للبلد، هل هي اللغة الإنجليزية أم الإيطالية أم العربية، وكان علماء الدين يتفانون في الدفاع عن اللغة العربية، والرفض باللغات الأجنبية، وأيضا لم تكن اللغة الصومالية مكتوبة في ذاك الوقت، وكان الصراع يحتدم أيضا عن أي حرف يكتب، الحرف اللاتيني أم الحرف العربي، وكان العلماء يقولون لاتيني تعني لاديني، ولهذا تغاضى الدستور عن اللغة. ولكنه ذكر في ديباجيته بأن على الدولة أن تخلق الظروف الأساسية الملائمة لكتابة اللغة الصومالية.
كان هذا الدستور يترجم عن عقيدة المجمتع الصومالي حيث نص بأن الإسلام هو دين الدولة(مادة1-فقرة3)، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع(مادة50).
الوثيقة الثانية: دستور 1979:
في عام 1969 قام الجيش بانقلاب عسكري على السلطة الشرعية بعد أن اغتيل الرئيس عبد الرشيد علي شرماركي في مدينة لاسعانود بيد أحد حراسه.
أول عمل قام به الجيش بقيادة سياد بري كان تعطيل عمل دستور 1960، وإنهاء عمل جيمع الهيئات الدستورية، وكان يدير البلاد بإعلانات دستورية يصدرها العسكر، وبعد عشر سنوات من تولي مقاليد الحكم قام النظام العسكري الحاكم بإنشاء دستور 1979، الذ يترجم عن فلسفة العسكر المتمثلة بالنظام الاشتراكي ونظام الحزب الواحد.
ومن أهم مميزات هذا الدستور بأنه أولا وضع على أسلوب الفرض وهو أحد الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير التي يتم فيهم اجبار الشعب على تصويت ما يخالف ضميرهم ومصالحهم بسبب القمع المفرط، والارهاب المفزع. وثانيا: أنه لم يذكر بأن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، واكتفى بأن الإسلام هو دين الدولة(مادة3-فقرة1)، كما أنه منع حرية تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها، وأجبر الشعب بالانضمام إلى الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي.
ولكنه أحسن بعدما نص على أن اللغة الصومالية والعربية هي اللغات الرسمية للجمهورية الديمقراطية الصومالية (مادة3-فقرة2)، وأصبح أول دستور صومالي يحدد اللغات الرسمية للدولة.
الوثيقة الثالثة: مقترح دستور 1990
هذا المقترح أعده النظام العسكري بقيادة سياد بري في آخر عمره، وهو مغاير تماما عن دستور 1979 الذي ارتكز على الفلسفة الاشتراكية الشرقية المتملثة بمنع تعدد الأحزاب السياسية وتغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، وقد اختار النظام العسكري رغم أنفه الديمقرطية الغربية المتمركزة بالنظام الليبرالي، وأجاز ما كان محروما في دستور 1979، حيث أعلن المقترح بأن تعدد الأحزاب هو النظام المعتمد في البلد، وأن الأحزاب السياسية تتنافس في قيادة البلد بشكل ديمقراطي حر.
كما أنه بعد أن أوضح بأن الإسلام دين الدولة (مادة3-فقرة1) – وهي الفقرة التي اكتفى بها دستور 1979 – أضاف بأنه لا يمكن نشر دين غير الإسلام في الوطن (مادة3-فقرة2)، وأخيرا أكد بخجل بأن الشريعة الإسلامية مصدر مهم لتشريع القوانين (مادة3-فقرة3)، ولم يقل كدستور 1960 بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ولكنه تطور مهم طرأ في فئة العسكر بآخر حياتهم، ولكن القدر لم يشأ بأن يتم اجراء الاستفتاء لهذا المقترح، وسقطت الدولة قبل الاستفتاء.
وكرر المقترح بأن اللغات الرسمية للدولة هي الصومالية والعربية (مادة4)، كما نص الدستور الذي سبقه في الفقرة الثانية من مادته الثالثة.
الوثيقة الرابعة: الميثاق الوطني الانتقالي 2000
انبثق الميثاق من مؤتمر عرته بجيبوتي للمصالحة، الذي شارك فيه وفود من زعماء القبائل والمجتمع المدني، خلافا للمؤتمرات التي كانت قبله حيث يتم استضافة زعماء الحرب فقط دون غيرهم للتشاور عن مصلحة الأمة، وبما أن هذا المؤتمر شاركت فيه فصائل المجتمع المدني وزعماء القبائل التقليديين أصحاب الشأن في التشاور حول مستبقل الأمة، فإن هذا الميثاق ترجم عن الحالة السياسية والإدراية القائمة في ذلك الوقت، وترجم أيضا عن رغبات الشعب وعن ثقافة المجتمع وعقيدة الأمة عند الحديث عن المبادئ العامة للميثاق، خاصة البنود المتعلقة بالدين وعلاقته بالتشريع واللغات الرسمية للبلد.
لقد أدت الحرب الأهلية التي نشبت في الصومال، بعد سقوط نظام سياد بري إلى شلل تام في مؤسسات الدولة، ودمرت البنية التحتية كلها، وغابت سلطة الدولة عمليا عن جميع الأراضي الصومالية، وبرزت على الساحة سلطة زعماء الحرب والمليشيات التابعة لها، المكونة على أساس قبلي، واستولت كل منها بمنطقة وحلت فيها محل الدولة، فبعض هذه القوى أنشأت أجهزة أمنية، وإدارية تنظم شئون المواطنين بكافة وجوهها، مثل الحركة الوطنية الصومالية حيث أسست نظام محليا انفصاليا في أقاليمها، تحت اسم جمهورية صوماللاند، كذلك أسست الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال نظاما محليا في الأقاليم الشمالية الشرقية، وسمته بولاية بونتلاند، ولكن زعماء الفصائل الأخرى في الجنوب لم تنجح بإقامة إدارات محلية في مناطقهم. ولم تقتصر مهمة الأجهزة التي أنشأتها الميليشيات، على إدارة الشؤون الداخلية في مناطق تواجدها، إنما تعدّت ذلك إلى المجال الخارجي، وخلقت علاقات مع العالم الخارجي، وأخذت تتلقى الدعم المعنوي والمادي من بعضها (مساعدات مالية، وغذائية، وطبية، ومنح دراسية….إلخ).
إن هذا الوضع الذي أفرزته الحرب الأهلية، مهّد الطريق لأن يعلن الميثاق الوطني الانتقالي 2000 في الفقرة الثالثة من مادته الأولى بأن نظام الدولة سيكون نظاما فيدراليا، ولكن المرحلة الانتقالية سيكون النظام مرتكزا بالحكم الذاتي.
وأثبت الميثاق بأن اللغات الرسمية للجمهورية هي الصومالية والعربية (مادة2-فقرة4)، كالوثائق السابقة منه. ولكنه هو الأول بمثل هذه العبارات الواضحة والمحددة لمصدر التشريعات حيث أشار بشكل لا يثير الشك بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر التشريعي للقوانين وكل قانون يخالف الشريعة فهو باطل(مادة4-فقرة4) وهي أول وثيقة دستورية تستخدم بهذا التعبير الصارم، بعد إشارته بأن الإسلام دين الدولة ولا يمكن نشر دين آخرى وأفكار تناقض الإسلام في البلد(مادة2-فقرة1).
الوثيقة الخامسة: الميثاق الانتقالي الفيدرالي لجمهورية الصومال 2004
بعد انتهاء مدة حكومة عبد القاسم صلاد حسن، وهي لم تتجاوز نفوذها على جزء قليل من العاصمة، بادرت كينيا إلى عقد مؤتمر مصالحة وطنية بين الدولة وزعماء الحرب المعارضة للحكومة في عام 2002، واستمر هذا المؤتمر قرابة سنتين متتاليتين للوصول إلى حل سياسي موحد، وأخيرا عين من الوفود المشاركين فيه لجان خاصة وفي مجالات متنوعة، حيث تعد كل لجنة برنامجا وتقريرا عن مجالها، ومن هذه اللجان لجنة إعداد الدستور وهي من أهم اللجان إذ يكون ما تعدّه أساسا لنظام الدولة الصومالية المنتظر إقامتها، فأعدوا ميثاقا وطنيا لكن على أساس جديد حيث تضمن مبادئ فيدرالية، وأن يكون شكل الدولة فيدراليا، وتم الاتفاق على هذا الميثاق الفيدرالي، وسميت الحكومة بالحكومة الفيدرالية الصومالية استنادا إلى هذا الميثاق الفيدرالي.
من أبرز مميزات الميثاق الفيدرالي بأنه أوضح بأن اللغة الرسمية لجمهورية الصومال هي اللغة الصومالية (ماي ومحاتري) واللغة العربية(مادة7)، وهي إضافة جديدة حيث لم تتطرق الوثائق الدستورية السابقة بتفريع اللغة الصومالية إلى ماي ومحاتري، وثبتت المادة المتعلقة بالدين حيث نص بأن الإسلام هو دين الجمهورية(مادة8-فقرة1)، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع (مادة8-فقرة2).
كما أن الميثاق الفيدارلي غيّر شكل الدولة من دولة بسيطة موحدة إلى دولة فيدرالية مكونة من ولايات، وبما أن ميثاق عرته أشار إلى أن شكل الدولة سيكون فيدراليا، إلا أن هذا الميثاق هو الذي حدد شكل الدولة رسميا بأنها فيدرالية.
يتطلب النظام الفيدرالي بأن يتم توزيع الاختصاصات بين الدولة الفيدرالية والولايات بشكل دقيق، في الوثيقة الدستورية، والفقه الدستوري يحدد طرقا لتوزيع الاختصاصات من بينها:
أولا: تحديد اختصاصات السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات
ومقتضى ذلك أن يحدد الدستور الفيدرالي، على سبيل الحصر، المسائل التي تدخل في اختصاص السلطات المركزية (الفيدرالية)، وتلك التي تدخل في اختصاص السلطات التابعة للولايات في صلب الدستور الفيدرالي، وهي الطريقة التي اتبعها الميثاق الفيدرالي الانتقالي لجمهورية الصومال 2004.
وينتقد الفقه هذا الأسلوب لما يتضمنه من مخاطر و صعوبات مهما كان الدستور دقيقا ووافيا في تحديد الاختصاصات، فلابد أن تستجدّ قضايا لم يكن المشرع قد تناولها بالتنظيم، فيثار التساؤل عندئذ عن السلطة التي تختص بتنظيمها هل هي السلطة المركزية أم سلطة الأقاليم، مما قد يكون سببًا لإثارة خلافات من شأنها أن تؤثر على وحدة واستقرار الدولة الفيدرالية(1).
ثانيا: تحديد اختصاصات الولايات وترك ما تبقى للسلطات الفيدارلية
بمقتضى هذه الطريقة فإن الدستور الفيدرالي يحدد اختصاصات الولايات على سبيل الحصر دون التعرض لاختصاصات الحكومة المركزية. وهذا تعني أن اختصاصات السلطات الفيدرالية ستصبح عامة، واختصاصات الولايات ستكون محددة، إن هذه الطريقة في توزيع الاختصاصات تتفق مع السياسة المركزية التي قد تنتهجها الدولة الفيدرالية، لأن الولايات لا تستطيع أن تدخل في اختصاصاتها مسائل جديدة ولاسيما إذا كانت الدولة الاتحادية نشأت بأسلوب التفكك كالصومال حيث تعتبره (اختصاصات الولايات) انتزاعا أو نقلا لبعض الاختصاصات من السلطة المركزية إلى السلطات المنشأة الجديدة وهي سلطات الولايات.
ويعاب على هذه الطريقة أنها تؤدي إلى تقوية مركز السلطات الفيدرالية، وتجعل اختصاصاتها هي الأصل، بينما تضيق من اختصاصات الولايات المنصوص عليها في الدستور وتجعلها استثناءا، وهي بهذا تمنح الحكومة الفيدرالية مزيدا من القوة والمركزية على حساب سلطات الولايات الأمر الذي يخشى معه أن تصبح هذه السلطة القوية سببا في تقويض الدولة الاتحادية وتحولها إلى دولة بسيطة موحدة(1).
ثالثا: تحديد اختصاصات السلطات الاتحادية وما تبقى للولايات
وفقا لهذا الأسلوب يحدد الدستور الاتحادي على سبيل الحصر السلطات التي تدخل في اختصاص السلطات الاتحادية، ويترك ما عداها لاختصاص الولايات. ولذا تكون اختصاصات الولايات هي الأصل واختصاصات السلطات الاتحادية هي الاستثناء ويتفق هذا الأسلوب مع الظروف التاريخية التي ولدت فيها فكرة الدولة الاتحادية وخاصة في الدول الاتحادية التقليدية التي نشأت بالتجمع أو الاتحاد كالولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا، ويفسر الأخذ به أن هذه الولايات أو الدويلات كانت في الأصل مستقلة، فكان همها أن تحدّ من سلطة الاتحاد، ولكن التطور التاريخي جاء على حساب الولايات وذلك استجابة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والإستراتيجية والتقنية، بحيث أصبح اختصاص السلطات الاتحادية هو الاختصاص العام في واقع الأمر(1).
ولهذا فإن الميثاق الفيدارلي قد اتبع الطريقة القديمة لتوزيع الاختصاصات بين السلطات الفيدارلية والولايات، حيث حصر لكل سلطة اختصاصاتها بشكل محدد وذلك في الملحقين الأول والثاني للميثاق.
الوثيقة السادسة: الدستور الفيدرالي الانتقالي 2012
هذا الدستور هو أول دستور بعد سقوط حكومة سياد بري يتم المصادقة عليه داخل الوطن، وأول دستوري فيدرالي بعد الميثاق الفيدرالي، وأوسع الوثائق الصومالية من حيث المواد حيث تكونت مواده من143مادة، ومع هذا فهو ناقص ينتظر التكملة. كلما كثرت مواد الدستور، ومال إلى التفاصيل كثرت تناقضاته والاختلاف فيه.
فهو كالوثائق السابقة في ما يتعلق بالدين حيث كرر بأن الإسلام دين الدولة (مادة1-فقرة1)، وأنه لا يمكن نشر دين غير الإسلام في البلد (مادة1-فقرة2)، و لا يمكن إصدار قانون لا يوافق المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ومقاصدها (مادة1-فقرة3)، ومع أنه لم يستخدم العبارات الصارمة التي استخدمها ميثاق عرته إلا أنه أحسن في صياغة هذه الفقرات.
ولكن الشيء الغريب الذي استحدثه الدستور الفيدرالي الانتقالي هو جعل اللغة العربية لغة ثانية في البلد، وهذه سابقة من نوعها في الوثائق الدستورية الصومالية، حيث أنه لم يجعلها حتى النظام العسكري لغة ثانية في وثائقه الدستورية ناهيك عن الأنظمة الأخرى، وهي القضية التي كافحها الشعب الصومالي منذ بداية دولته العصرية، فإن مرت علينا هذه الفقرة بدون الرفض، فإننا ننتظر بأن يتم إضافة اللغة الإنجلزية كلغة ثانية للبلد بدلا من العربية لغة الثقافة الصومالية التي تربطه بالعالم العربي والإسلامي لأنها لغة حضارتنا الإسلامية.
وبما أن الدستور فيدرالي فإنه من المفترض أن يحدد بدقة توزيع الاختصاصات بين السلطات الفيدرالة والولايات، ولكنه تغاضى عن التحديد، حيث تم صياغة المادة المتعلقة بتوزيع الاختصاص بشكل غريب وبعيد كل البعد عن الصياغة القانونية التي تتطلب تحديدا دقيقا لا ينشئ خلافات بمدلولها، فانظر معي كيفية صياغة المادة الـ (54) حيث نصت كالتالي:
” سيتفاوض كل من الحكومة الفيدرالية والولايات المنتمية للدولة الفيدرالية توزيع الاختصاصات السياسية والاقتصادية ماعدا:
أ- الشؤون الخارجية
ب- الدفاع الوطني
ت- الهجرة والجنسية
ث- السياسية النقدية
التي تختص بها السلطات الفيدرالية”.
إذا تمعنا النظر في هذه المادة، نرى أن المشرع الدستوري لم يحسم قضية توزيع الاختصاصات وترك الطرفان يتفاوضان فيما بينها، وهي صياغة أضعف من صياغة الميثاق الفيدرالية الانتقالي 2004، الذي حدد اختصاصات كل من السلطات الفيدرالية والولايات، ولم نعرف بعدُ مما دفع بالمشرع الدستوري أن يتقهقر إلى الوراء، حيث كان من المنتظر أن يضيف ما تركه الميثاق الفيدرالية لا أن ينقص منه.
ومن المعلوم أن النزاعات التي تطرأ بين الولايات والسلطات الفيدرالية لا تحل بطرق سياسية ومفاوضات في الخارج والداخل، لأن الدولة الفيدرالية كيان قانوني واحد، يتم حل نزاعاته بالطرق القانونية وعبر المجالس القضائية.
وحسب خارطة الطريق للدولة الصومالية كان من الواجب على المسئولين أن يكملوا الهئيات والمجالس الدستورية التي طلبها الدستور لاستكمال الدولة القانونية، ولكن تقاعس مسئولي الدولة أدى إلى تدهور الوضع السياسي والقانوني والأمني للبلد.
الخاتمة:
بعد هذه الجولة القصيرة في الوثائق الدستورية الصومالية بدءا من دستور 1960، وانتهاء بالدستور الفيدرالي الحالي، رأينا أن كل وثيقة تترجم عن وضع سياسي واجتماعي قائم في وقتها، كما اتضح لنا بأن بداية الدولة الصومالية كانت تخطو نحو الدولة القانونية التي تمثل رغبة الشعب، إلى أن جاء الانقلاب العسكري وسلب السلطة من يد الشعب واحتكرها لنفسه حتى انهارت عليه وهو يتشبث بها، وفي مرحلته وصل التناقض في ذروته بين محتوى وثائقه الدستورية والموروث الثقافي والديني للمجتمع الصومالي.
أما في مرحلة عرته 2000، فقد كان الميثاق يعبر في النظام السياسي عن تجزئة البلد إلى كيانات إدراية حسبما كان عليه الحال، ولكن في الجانب الآخر كان يمثل في مبادئه الموروث الثقافي والديني للمجتمع، حيث صاغت الوفود المشاركة في البنود المتعلقة بالدين وعلاقته بالتشريع بشكل حاسم وصارم لم يتم صياغتها قبل هذا الميثاق ولا بعده.
أما في الميثاق والدستور الفيدرالي فلم يضيفا غير النظام الفيدرالي للدولة، باستثناء إضافة تفرعة اللغة إلى ماي ومحاتري، والإضافة الغريبة أيضا للدستور الفيدرالي بجعل اللغة العربية لغة ثانية، والتقصير الواضح في صياغة البنود المتعلقة بتوزيع الاختصاصات بين السلطات الفيدرالة والولايات وهي الثغرة الدستورية التي قد تؤدي إلى احتراب داخلي بين الولايات، أو بينها وبين السلطات الفيدرالية، لأنه لا يوجد بنود توضح مهام كل منها، ويكون لكل منها الحق في القيام بما يراه من مصلحته.
أقترح، اجراء دراسات وبحوث قانونية تتعلق على الثغرات القانونية في الدستور الفيدرالي بغية الافلات من العواقب الوخيمة التي قد تطرأ بسبب الإهمال والتعمد في صياغة بعض المواد، وترك بعض البنود المهمة، لتوجيه الدولة نحو الدولة القانونية التي تحترم المشروعية القانونية في كل أعمالها، وإنشاء كل المجالس الدستورية التي طلبها الدستور، لأنها الأركان المهمة للدولة الصومالية القانونية المطلوبة.
وشكرا…
إعداد: عبد القادر محمد شيخ عبد الله (شيء لله)
أستاذ القانون الدستوري بجامعة مقديشو
المراجع:
أولا: الكتب:
1. حسن مصطفى البحري، القانون الدستوري (النظرية العامة)، ط1، 2009م.
2. إبراهيم أبو خزام، الوسيط في القانون الدستوري، الكتاب الأول الدساتير والدولة ونظم الحكم، دار الكتاب الجديد المتحدة، (بيروت-لبنان)، ط2، 2002.
3. عبد المنعم يونس، الصومال وطنا وشعبا، النهضة العربية، القاهرة 1962.
4. محمد رفعت عبد الوهاب، مبادئ النظم السياسية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002.
5. هكار عبد الكريم فندي، الفدرالية.. مفهوما وتطبيقا، مطبعة خاني-دهوك، 2009.
6. إبراهيم عبد العزيز شيحا، النظم السياسية الدول والحكومات، دار النهضة العربية، القاهرة، 2006.
7. منصور ميلاد يونس، القانون الدستوري والنظم السياسية، الكتاب الأول: النظرية العامة للدولة، الشركة الخضراء للطباعة والنشر، بنغازي، 2008.
ثانيا: الوثائق الدستورية
1- دستور الصومال 1960.
2- دستور الصومال 1979.
3- مقترح دستور 1990.
4- الميثاق الوطني الانتقالي 2000.
5- الميثاق الانتقالي الفيدرالي 2004.
6- الدستور الفيدرالي الانتقالي 2012.
(1) حسن مصطفى البحري، القانون الدستوري (النظرية العامة)، ط1، 2009م، ص: 41-24.
(2) إبراهيم أبو خزام، الوسيط في القانون الدستوري، الكتاب الأول الدساتير والدولة ونظم الحكم، دار الكتاب الجديد المتحدة، (بيروت-لبنان)، ط2، 2002، ص: 37.
(1) إبراهيم أبو خزام، مرجع سابق، ص: 39.
(1) عبد المنعم يونس، الصومال وطنا وشعبا، النهضة العربية، القاهرة 1962، ص166.
(1) محمد رفعت عبد الوهاب، مبادئ النظم السياسية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002، ص80.
(1) هكار عبد الكريم فندي، الفدرالية.. مفهوما وتطبيقا، مطبعة خاني-دهوك، 2009 ص 64.
(1) إبراهيم عبد العزيز شيحا، النظم السياسية الدول والحكومات، دار النهضة العربية، القاهرة، 2006، ص70. ومنصور ميلاد يونس، القانون الدستوري والنظم السياسية، الكتاب الأول: النظرية العامة للدولة، الشركة الخضراء للطباعة والنشر، بنغازي، 2008، ص253.
تعليقات الفيسبوك