ثالثا- الإسلاميون والحكم في الصومال
من مؤتمر عرتا (جيبوتي ) 2000م إلى مؤتمر جيبوتي 2009م(3)
تتناول هذه الحلقة الدور السياسي للاسلاميين في الفترة من مؤتمر المصالحة في عرتا بجيبوتي عام 2000 الذي انبثقت منه أول برلمان وحكومة انتقالية وحتى عام 2009 وهو أيضا عام المصالحة بين الحكومة الانتقالية وتحالف إعادة تحرير الصومال(المحاكم الإسلامية سابقا). وتتكون الحلقة من محورين، الأول: الإسلاميون والحكومات الانتقالية (حكومتي عبد القاسم صلاد وعبد الله يوسف)، والثاني هو: الإسلاميون والمحاكم الإسلامية.
الإسلاميون والحكومات الانتقالية
يعتبر مؤتمر عرتا في جيبوتي عام 1999/2000م أول مؤتمر صومالي للمصالحة الوطنية ينجح في التوصل إلى اتفاق يضع أسس المصالحة والدولة الصومالية ويشكل على أساسه برلمانا وحكومة انتقاليتين وذلك منذ انهيار الدولة الصومالية عام 1991، وهي نفس الأسس التي تسير عليها الدولة الصومالية والعملية السياسية برمتها حتى الآن. وجاء المؤتمر بعد عقد من الأزمة الصومالية وعلى إثر فشل العديد من مؤتمرات المصالحة الصومالية التي تم تنظيمها من قبل دول الجوار المختلفة انتهت كلها إلى طريق مسدود، بسب تعنت قادة الفصائل وأمراء الحرب الذين أصبحوا غير مهتمين بإعادة الدولة الصومالية واتخذوا مؤتمرات المصالحة أحد آليات استمرار أوضاع الحرب من جهة، ونيجة لشدة استقطاب دول الجوار للفصائل الصومالية من جهة أخرى.
وكان من أهم مخرجات المؤتمر إجراء مصالحة بين العشائر الصومالية ، ووضع أسس العملية السياسية وقاعدة تقاسم السلطة في المرحلة الانتقالية ووضع ميثاق انتقالي تم على أساسه تعيين أعضاء البرلمان وانتخاب رئيس الجمهورية ، وتمكن البرلمان والحكومة في الانتقال إلى الميدان مباشرة واتخاذ العاصمة مقديشو مقرا لهما، وترحيب الشعب الصومالي في العاصمة والمحافظات المختلفة لهما، مما كان يمثل سابقة في العملية السياسية الصومالية في حينها.
وتعود أسباب نجاح جيبوتي إلى طرح منهجية مختلفة لعملية المصالحة الصومالية تمثلت في تغيير أسس التمثيل عبر الدعوة إلى زعماء العشائر الصومالية بدلا من قادة الفصائل المسلحة كما جرت العادة، والمشاركة الشعبية الواسعة متمثلة في المجتمع المدني ومنظمات المرأة والإسلاميين وشخصيات صومالية عامة وقيادات سياسية تاريخية في الداخل والمهجر، وكان من أسباب نجاح وساطة جيبوتي في تلك الفترة تزامن انعقاد المؤتمر في وقت كانت دول الجوار الإقليمي – وأهمها مصر وإثيوبيا – تشعر باليأس وتبدي عدم تحمسها لتنظيم مؤتمر مصالحة جديد للصوماليين بعد الفشل المتكرر لوساطتها وخصوصا بعد فشل الدولتين في مؤتمري سودرى (1997) والقاهرة (1998)، مما ساهم في عدم المسارعة تلك الدول إلى افشال المؤتمر والوساطة الجيبوتية منذ البداية كما كان عليه الحال في تلك الفترة، وانتظار ما تسفر عنه الجهود الجيبوتية.
وأثبت مؤتمر عرتا في جيبوتي قدرة الصوماليين على التوصل إلى اتفاق وتشكيل حكومة انتقالية، كما أثبت وجود قيادة صومالية غير زعماء الحرب تحظى بالشرعة تتمثل في زعماء العشائر وقيادات المجتمع المدني والزعماء الدينيين وشخصيات عامة، وفي نفس الوقت إمكانية تخطي قادة الفصائل المسلحة واستبعادهم وعزلهم بل إمكانية معاقبتهم وملاحقتهم دوليا باعتبارهم مجرمي حرب يسعون إلى عرقلة المصالحة والحيلولة دون أن تأخذ العدالة الانتقالية في الصومال مجراها. وأثبت المؤتمر أيضا قدرة جيبوتي الدولة الصغيرة في المنطقة على الوساطة بين الصوماليين وتنظيم مؤتمر مصالحة ناجحة بسبب الأوراق السياسية التي تملكها وأهمها الثقة التي يوليها الصوماليون لها باعتبارها جزءًا من الصومال الكبير، ورغبة قادتها في استعادة الدولة الصومالية أكثر من غيرها، وعدم الحساسية التي كانت تبديها أطراف الصراع الإقليمي من الدور الجيبوتي باعتبارها دولة صغيرة ومحايدة في الصراع الإقليمي تراعي توازنات دقيقة في علاقة المكونات الداخلية لديها وعلاقاتها الخارجية مع أطراف الصراع في المنطقة تاريخياً.
وكان للاسلاميين دور محوري في نجاح مؤتمر عرتا في جيبوتي، وكانوا جزءًا كبيرًا من مخرجات العملية في البرلمان والحكومة والظهير الشعبي لها، وخاصة حركة الإصلاح التي كانت بمثابة العمود الفقري للعملية برمتها، وذلك بسبب خبرة الحركة في المصالحة الوطنية التي بدأت بإطلاق استراتيجيتها بهذا الصدد عام 1992م، وإجراء المصالحة بين العشائر الصومالية، وانشاء جهاز خاص لها سمي بـ”مجلس المصالحة الصومالية” عام 1994م في مقديشو، و نشر بعد ذلك فروعه في المحافظات الجنوبية وقام بتنظيم عشرات العمليات المصالحة بين القبائل الصومالية، وانتقل بعدها إلى إطلاق ما سماه بالمصالحة السياسية بين الجبهات منذ أواخر التسعينات، إلى جانب إعداد التقارير والدراسات المتعلقة بالمصالحة. وكان مؤتمر قبائل الهوية في مقديشو عام 1999 قبيل إطلاق مؤتمر عرتا أكبر عملية مصالحة قام بها مجلس المصالحة الصومالية التي أنشأتها حركةالإصلاح في تلك الفترة .
وكانت الحركة قد وضعت خبرتها في مجال المصالحة وعلاقاتها الواسعة مع الأطراف المختلفة في أيدي الوساطة الجيبوتية، وتعاونت معها في تنظيم المؤتمر وفي دعوة الوفود المشاركة وانجاحه وتجاوز المطبات السياسية التي اعترضته وتقديم المشورة التي تحتاجها الوساطة الجيبوتية، وأبدى رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلى الذي كان قد تسلم زمام الحكم في البلاد للتو خلفًا لحسن جوليد تحمسه لعقد المؤتمر، وتبني المنهجية الجديدة للمصالحة، وتسويق المبادرة إقليميا ودوليا، وتحييد دول الجوار المتنافسة على الملف الصومالي قبل الدعوة إلى المؤتمر، ومن ثم أصبح أفراد من حركة الإصلاح وبعض الشخصيات والرموز الإسلامية الأخرى فيما بعد أعضاء في البرلمان والحكومة الانتقالية.
أما المجموعات السلفية فلم يكن لديها رؤية سياسية واضحة في عملية المصالحة الوطنية بصورة عامة أو المقدرة على قراءة مبادرة جيبوتي ومن ثم لم يكن لديها دور في المؤتمر باستثناء بعض الشخصيات والرموز السلفية المشاركة في المؤتمر التي لم يكن لديها انتماء تنظيمي، وأبرزها الشيخ عمر فاروق الذي كان من أهم الرموز الإسلامية في المؤتمر ، وأصبح أيضا عضوًا في البرلمان الانتقالي المنبثق عن المؤتمر، وكانت القيادات والرموز والرأي العام السلفي في مجمله يعارض المؤتمر وينتقدها في خطب الجمعة في مساجد مقديشو لأسباب غير سياسية تتعلق معظمها بمشاركة الفانيين والمطربين الصوماليين الذين كانوا ضمن المجموعات المشاركة والأغاني والمسرحيات الوطنية التي كانت تعرض على مسرح المؤتمر، و كانت انتقاداتها مبنية أيضا على مشاركة شخصيات نسائية غير محجبة في المؤتمر، وذلك في وقت عارضت إثيوبيا مخرجات مؤتمر عرتا بحجة سماح الإسلاميين وخاصة أعضاء الاتحاد الإسلامي بالمشاركة في المؤتمر والحصول على عضوية البرلمان والحكومة، وإلى جانب المشاركين في المؤتمر فقد تم تعيين بعض قيادات المحاكم الإسلامية في مقديشو أعضاء في البرلمان.
فشلت حكومة عبد القاسم المشكلة في مؤتمر عرتا بسط سيادتها على مقديشو العاصمة فضلا عن المحافظات الأخرى، وأصيب الشعب الصومالي الذي منحها التأييد المطلق بخيبة الأمل من جديد. فبالإضافة إلى الأسباب المتعلقة بضعف قيادة الحكومة والخلافات التي نشبت بين قياداتها، فقد عملت الفصائل المسلحة والحكومة الإثيوبية المتحالفة معها على تحجيم حكومة عبد القاسم وتضييق الحصار عليها وفرض العزلة الدولية عليها بإتهامها بضم قادة الحركات الإرهابية في صفوفها، وتحفظت عليها أمريكا والدول الأوربية. ومثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الضربة القاضية على حكومة عبد القاسم، واعتبر المجتمع الدولى الاتحاد الإسلامي والقاعدة منظمتين إرهابيتين، واعتبر الصومال الملاذ الآمن لها (1) ، وقامت إثيوبيا وكينيا بالدعوة إلى مؤتمر مصالحة جديد في كينيا بين الحكومة والفصائل المعارضة بها عام 2002م.
قام مؤتمر إمبغاتي في كينيا على أنقاض مؤتمر عرتا ومخرجاته واستبعاد مكوناته من الإسلاميين والمجتمع المدني، واستبدالهم بزعماء الجبهات المسلحة وإعادة الاعتبار لهم، ورغم إزاحة الجهود التي بذلت في عرتا والنتائج المثمرة التي حققها المؤتمر واستبعاد الإسلاميين والمجتمع المدني، إلى أن المجتمع الدولى لم يستطع تجاهل الأسس والقواعد الجديدة التي وضعها المؤتمرون للمصالحة وتقاسم السلطة (وهي نفس القواعد التي تجري عليها العملية السياسسية برمتها حتى الآن) مع إجراء تعديلات طفيفة عليها، وكانت مخرجات المؤتمر بعد سنتين من انعقاده تشكيل البرلمان والحكومة التي قادها عبد الله يوسف عام 2004م وشغل أمراء الحرب أبرز حقائبها الوزارية.
حظيت حكومة عبد الله يوسف أحمد مشاركة محدودة للإسلاميين بل والمجتمع المدني والعناصر غير المسلحة عموما مقارنة بحكومة عبد القاسم، ونجح عدد محدود من الإسلاميين في الحصول على مقاعد في البرلمان عبر عشائرهم، وساهم العداء التاريخي بين عبد الله يوسف رئيس حكومة امبغاتي وحركة الاتحاد الإسلامي(وخصوصا بين قيادات الحركة في عشائر الهوية من أمثال حسن طاهر أويس ) منذ المواجهات بين الطرفين عام 1992 في بوصاصو في معارضة يوسف وحكومته، وشارك أيضا أمراء الحرب في مقديشو الذين كانوا وزراء في الحكومة في العمل معًا للحيلولة دون مجيء حكومة عبد الله يوسف في مقديشو وسعى الطرفان في مواجهتها وإفشالها.
وأخيرا قام تحالف المحاكم الإسلامية الذي ضم طيفًا واسعًا من الإسلاميين ذوو خلفيات ومدراس فكرية مختلفة من بينهم حركة الشباب المرتبطة بالقاعدة وزعماء حرب وشيوخ عشائر وتجار حرب بمحاولة القضاء على حكومة يوسف بالهجوم على مقر الحكومة في بيدوا المعترفة من قبل المجتمع الدولي، لفرض واقع جديد على الصومال من طرف واحد، وذلك بسبب النشوة التي انتابت قادتها بعد الانتصار الساحق والمفاجئ الذي حققته على أمراء الحرب في مقديشو وسيطرتها على العاصمة ومعظم المحافظات الجنوبية. وبعد انهيار المحاكم على أيدي القوات الحكومية والإثيوبية انتهجت المجموعات التي كانت منضوية تحت مظلة المحاكم بحرب عصابات ضذ حكومة يوسف والقوات الإثيوبية في البلاد ونجحت في فرض حصار عليها ومنعها من بسط سلطتها في البلاد.
وعلى خلاف معظم التيارات الإسلامية التي عارضت حكومة يوسف في البداية وحاولت القضاء عليها لاحقًا رحبت حركة الإصلاح – رغم اقصائها عن المشاركة في مؤتمر امبغاتي للمصالحة – بالحكومة الانتقالية وقدمت لها النصائح والمشورة، ووقفت على الحياد ونأت بنفسها من الانحياز إلى أحد الطرفين المتصارعين، وقدمت الحركة لاحقا مبادرة للجمع بين الحكومة الانتقالية في بيدوا والمحاكم الإسلامية في مقديشو ،وذلك لدمج الشرعية الدولية التي كانت تتمتع بها الحكومة الانتقالية بشرعية الواقع التي فرضته المحاكم في مقديشو ، ولكن المحاكم تجاهلتها إذ لم تكن مستعدة لقبول مبادرة من أي جهة كانت، وكان موقف الحركة هذا يستند إلى قناعتها بضرورة إعادة الدولة الصومالية بأي شكل من الأشكال حفاظا على وجود الشعب الصومالي المهدد بالفناء، وذلك عبر طريق المصالحة والحوار وعدم جدوى محاولات استخدام القوة والسلاح لفرض واقع جديد من طرف واحد(2 (.
تناقص دور الحركة باعتبارها حركة مدنية غير مسلحة استخدمت وسائل سلمية وسياسية لحل المشكلة، في الوقت الذي سار التيار محليًا واقليميًا ودوليًا في تلك الفترة نحو الحلول العسكرية والإقصائية و عسكرة المجتمع الصومالي بعد سنوات من الاستقرار النسبي وانتشار المؤسسات التعليمية والشركات الاقتصادية العابرة لحدود العشائر،حيث أصبح موقف حركة الإصلاح في وضع صعب للغاية بحيث لم تكن الأطراف المختلفة تقبل الحياد، وكان يسود المنطق القائل (إما أن تكون معي أو ضدي).
وكان هزيمة أمراء الحرب في مقديشو وانتصار المحاكم الإسلامية نقطة التحول الجذري في الصراع الصومالي، حيث أصبح المجموعات الإسلامية المنضوية تحت المحاكم المعارضة المسلحة الوحيدة في البلاد، وتلاشي المعارضة التقليدية المرتبطة بالعشائر، وتحول شعار الحرب الأهلية من الواجهات القبلية إلى صبغة دينية. وهو ما دفع الغرب وأمريكا فيما بعد إلى فرز المحاكم واقناع المجموعات المعتدلة – التي كانت تحارب من أجل المشاركة السياسية – بالانضمام إلى العملية السياسية التي انتهت باتفاق جيبوتي بين الحكمومة الانتقالية وتحالف إعادة تحرير الصومال(المحاكم الإسلامية سابقا- جناح شريف شيخ أحمد ) في يناير 2009، الذي تم بموجبه انتخاب شريف رئيسا للصومال، بينما بقيت حركة الشباب ومجموعات متشددة أخرى في المعارضة المسلحة.
الإسلاميون وتحالف المحاكم الإسلامية
تعود جذور فكرة المحاكم الإسلامية في الثقافة الصومالية إلى دور الشيخ والفقيه والقاضي والزعيم الروحي في القبيلة في مرحلة ما قبل الاستعمار، وقد أدى إنهيار الدولة وعودة الشعب الصومالي إلى وضع ما قبل الدولة إلى استدعاء فكرة القاضي والفقيه الذي يفصل بين الصوماليين على الشريعة الإسلامية في غياب أجهزة الدولة. وكانت بداية نشأة هذا النوع من المحاكم لدى سكان المدن بعد اندلاع الحرب الأهلية في الشمال وهجرة سكان مدينتي هرجيسا وبرعو إلى إثيوبيا، حيث نشأت محاكم أهلية وسط مخيمات هؤلاء اللاجئين(3) . وبعد انهيار الدولة عام 1991 جرت محاولات مشابه من قبل بعض الأعيان لإنشاء هذا النوع من المحاكم في مقديشو عقب الإطاحة بنظام برى عام 1991م مباشرة، وذلك قبل أن يتم تشكيل جهاز المحاكم.
تطور ذلك خلال عامي 1994و1995م نتيجة للفراغ الناجم من انسحاب القوات الدولية من الصومال وفشل الفصائل المسلحة، وحالة الجمود التي سادت عملية عقد مؤتمرات المصالحة وتلاشي أمل استعادة الدولة ووفاة عيديد الرجل الأقوى في مقديشو، وتوقف الحروب الشاملة التي كانت تجتاح البلاد ، مما كان إيذانا بمرحلة اعتماد كل عشيرة على نفسها في تيسير شؤونها، فبدأ انشاء المحاكم في شمال مقديشو وترأس الشيخ على طيرى أولى تلك المحاكم ثم انتشرت في المحافظات في بلدوين وبيدوا، وكانت في المرحلة الأولى تقوم بتنفيذ الحدود، بينما اقتصرت عملياتها في نهاية التسعينيات على التوعية والفصل في الخصومات وإعادة التأهيل.
وكان للاتجاه الصوفي وجماعة آل الشيخ بقيادة الشيخ محمد معلم حسن دور كبير في فكرة إنشاء محاكم أهلية إسلامية وكانت الفكرة والشعار الإسلامي عموما يلقى تأييدًا واسعًا من عامة الشعب والإسلاميين الذين كانوا يرون إعلان تطبيق الشريعة بمثابة حل سحري للفوضى العارضة التي عاشوها، وعقابا صارما للعصابات التي تمارس القتل والنهب، وشارك مختلف الأطياف الإسلامية من السلفية والصوفية والإخوان في إنشاء وإدارة وتوجيه المحاكم منذ عام 1994 بصورة أو بأخرى حين بدأت المحاكم تأخذ دور بارزا في مقديشو والجنوب.
جرت تطورات إقليمية ودولية منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين كان لها انعكاساتها على الأوضاع الداخلية في الصومال وعلى الإسلاميين والمؤسسات المرتبطة بهم:
أولها : هزيمة حركة الاتحاد الإسلامي في أوجادين واحتلال إثيوبيا لقواعدها في محافظة جدو الصومالية عام 1996، وهروب بعض قياداتها إلى مقديشو، حيث نقلت إثيوبيا معركتها مع حركة الاتحاد إلى مقديشو والداخل الصومالي عبر تنفيذ حلفائها لعمليات اغتيالات واختطاف للمطلوبين لديها،
والثاني هو: تطور دولي تمثل في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في شرق أفريقيا، واتهام الولايات المتحدة بعض العناصر الصومالية بمشاركة عملية الهجوم واستخدام ملاجئ للقاعدة في الأراضي الصومالية ،
وأخيرًا :أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها، كل ذلك جعل العناصر الإسلامية المستهدفة اقليميًا ودوليًا البحث عن حماية لنفسها ولنشاطاتها، فوجدت ضالتها في المحاكم (4).
ومنذ هجمات 11 سبتيمر 2001 في واشنطن ونيويورك وإطلاق أمريكا سياستها لما سمته محاربة الارهاب وبدء عمليات القبض والاغتيالات على العناصر المطلوبة لديها عبر أمراء الحرب المتحالفيين معها – اتخذت المحاكم أدوار سياسية وعسكرية، وانضمت العناصر المطلوبة إلى تحالف المحاكم، ومن ثمَّ خرجت المحاكم من سلطة العشيرة وأصبحت كيانا أكثر استقلالا، واتخذت مسارًا أكثر تشددًا، في الوقت الذي اشتدت عمليات القتل والاغيتالات المنظمة التي تتبادلها أطراف الصراع الصومالية المرتبطة بالأطراف الإقليمية والدولية.
تحولت المحاكم الإسلامية في السنوات التالية لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أمريكا من جهاز تابع للعشائر مخول فقط لاستتباب الأمن والفصل في الخصومات ولا علاقة له بالعمل السياسي ولا بشؤون القبائل الأخرى إلى جهاز مستقل لديه أجندة سياسية وعسكرية، يدافع عن نفسه وعن قياداته ضد الفصائل المسلحة وأمراء الحرب المتعاونة مع الأطراف الخارجية، وفرضت الضغوط المحلية والدولية عليها بالتنسيق والتعاون فيما بينها وصولا إلى انشاء تحالف يجمعها وتحت قيادة واحدة تحت اسم “اتحاد المحاكم الإسلامية” وذلك منذ عام 2004، وانضمت إليه جميع المحاكم في مقديشو،إضافة إلى المجموعات الإسلامية المسلحة وأهمها المجموعات المرتبطة بالقاعدة (حركة الشباب فيما بعد) وبدأت تقوم بتنفيذ عمليات مشتركة لها(5).
ومن ناحيتهم قام أمراء الحرب أيضا بعد المقاومة الشرسة التي واجهوها في معاركهم ضد المحاكم التي لم يتعودوا بها بإنشاء تجمع سموه بـ”تحالف إرساء السلام ومحاربة الإرهاب” وكان مما عجل في خوض الطرفين – اللذين كانا متحدين في منع حكومة يوسف من مجيئ مقديشو – في المواجهات العسكرية هو تلاشي خطر الحكومة الانتقالية التي انتقلت إلي بيدوا منذ عام 2005م (6) .
استغلت المحاكم الإسلامية بسخط الرأي العام الصومالي من تصرفات أمراء الحرب، بالإضافة إلى السخط العام عربيًا وإسلاميًا من سياسة أمريكا بعد غزوها على أفغانستان والعراق، وتزامنت تلك الفترة بأوج عمليات الاغتيالات المتبادلة في مقديشو، فاستطاع تحالف المحاكم بتأليب الرأي العام الصومالي ضد أمراء الحرب، وإلحاق الهزيمة بهم، وطردهم من مقديشو مع حلول عام 2006، وتوحيد العاصمة لأول مرة منذ عقد ونصف، وتمكنت المحاكم قبل نهاية عام 2006 من السيطرة على معظم المحافظات في وسط وجنوب الصومال.
وقد أغرى الانتصار العسكري الكبير الذي حققه اتحاد المحاكم الكثير من الجماعات الإسلامية وقيادات سياسية وعشارية بالانضمام إليها ومحاولة اقتسام الكعكة معها، كما أن الجماهير الصومالية في الداخل والخارج التي كانت متعطشة للسلام ومتذمرة من تصرفات أمراء الحرب الذين أصبحوا عقبة كأداء على طريق السلام والمصالحة وإعادة الدولة الصومالية خلال عقد ونصف – قد علقت آمالها على المحاكم، ومنحتها التأييد المطلق لها، على أمل استعادة الأمن والاستقرار للبلاد.
وكانت حركة الإصلاح قد أخذت مسارًا مختلفًا بعيدا عن المحاكم تدريجيا منذ نهاية التسعينات، باعتبارها حركة إسلامية مدنية غير مسلحة، وبدأت الحركة بعد الحادي عشر من سبتمبر وإعلان الولايات المتحدة نيتها في القيام بعمل عسكري ضد الصومال بتوضيح سياستها ومبادئها، وأصبحت في تلك الفترة الحركة الإسلامية الوحيدة المعلنة التي تتحدث باسمها وتقابل الصحافة الغربية وتتحدث مع وسائل الاعلام العالمية، وساهمت جهود الحركة في هذا الصدد في تجنيب الشعب الصومالي من الغزو الأمريكي من خلال تقليل وجود للقاعدة في الصومال، وعدم التسرع إلى توجيه ضربات عسكرية إليها التي غالبا ما كان تصيب المدنيين الصوماليين المثقلين أصلًا بأعباء الحرب الأهلية.
وعلى عكس التيارات الإسلامية ، فإن حركة الإصلاح لم يغريها هذا الانتصار، ورفضت عروضا مغرية بخصوص الانضمام إلى تحالف المحاكم من بعض الأطراف الفاعلة فيها، وتقلد مناصب سياسية بها، ولكنها بدلا من ذلك طلبت الحركة من تحالف المحاكم بعد سيطرته على العاصمة ومعظم المحافظات الجنوبية طرح مشروع وطني للمصالحة وإعادة الدولة باعتبارها أقوى الأطراف الفاعلة في الصومال آنذاك، ورأت قيادات المحاكم وهي في قمة نشوة النصر رفض حركة الإصلاح بالاندماج معها واختيارها الاستقلال بمثابة تحدي في سلطتها وبدأت بخطوات للتضييق عليها ، فلم تكن مكونات المحاكم التي كان يغلبها طابع التطرف والاغترار بالانتصار العسكري السريع وغير المتوقع لها بالإضافة إلى الفوضى والهلامية التي تتصفها – بقبول التعدية أو تسمح بوجود آخر غير مصفق لها.
وكان أكبر إنجاز قام بها اتحاد المحاكم الإسلامية خلال الشهور الستة من عمره تشغيل مطار وميناء مقديشو بالإضافة إلى الأمن الذي تمتعت بها العاصمة والمناطق الجنوبية بسبب انهيار العصابات التي كانت تتحكم بها تلقائيا وليس بفعل قامت بها المحاكم، ولكنها وبدلا من إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة وإجراء المصالحة وانشاء المرافق الخدمية انشغلت المحاكم بغلق محلات السينما ومنع مشاهدة كرة القدم ومواصلة عملياتها العسكرية والتطلع إلى السيطرة على المزيد من المناطق، وفشلت في تحويل النصر العسكري الكبير الذي حققته إلى انجاز سياسي، وكانت نهايتها عندما قاطعت المفاوضات مع الحكومة الانتقالية بوساطة الجامعة العربية في الخرطوم بضغوط من المجموعات المتشددة الفاعلة فيها، التي كانت غير راغبة في المصالحة، واتجهت بعد ذلك إلى بيدوا بهدف القضاء على الحكومة الانتقالية فيها، بل ذهبـت أبعد من ذلك بإعلان الحرب على إثيوبيا والذهاب إلى أديس أبابا، وكانت النتيجة بعد أقل من أسبوعين من اندلاعها بانهيار المحاكم ودخول القوات الاثيوبية مقديشو لأول مرة في التاريخ.
دخل الصومال بعد الإزاحة بالمحاكم الإسلامية بواحدة من أسوء مراحل الحرب الأهلية، فقد بدأت فلول المحاكم بحرب عصابات على الحكومة الانتقالية والقوات الإثيوبية ومنعتها من بسط سلطتها في البلاد، وكان من تبعاتها تدمير ما تبقى من العاصمة ونزوح مئات الآلاف من سكان العاصمة والمحافظات الجنوبية، وكان المحصلة النهائية لتلك الجولات من الحروب المدمرة قبول جناج من المحاكم غير فاعل عسكريا في الداخل بضغط من المجتمع الدولي بعد سنتين من المعارك الشديدة بدخول مفاوضات والتوصل إلى اتفاق جيبوتي 2009، والذي بموجبه تم انتخاب شريف شيخ أحمد رئيسا للحكومة الانتقالية دون أن تنتهي الحرب، حيث لم يستطع شريف وزملاءه باقناع معظم المجموعات العسكرية على الأرض الانضمام إلى الحكومة، ولا تزال المعارضة الرئيسية المسلحة للحكومة الصومالية حتى الآن من بقايا المحاكم تقوده حركة الشباب ويواجه القوات الصومالية والقوات الافريقية المساندة لها، ويعوق دون إعادة بناء الدولة الصومالية من جديد، وهو ما يشبه مصير الجبهات العشائرية التي أسقطت نظام سياد بري ولكنها أدخلت البلاد في دوامة العنف، ولم يجن الشعب الصومال من الثمن الباهظ التي دفعها لاسقاط برى غير الدمار والانتقال إلى مرحلة أكثر دموية .
إن مشروع أمريكا حول ما سمته محاربة الارهاب والقاعدة والمواجهات التي دارت بينهما عالميا ومَثلَ الصومال أحد ميادينه الرئسية، ونتائجه الكارثية التي كان من بينها قيام اتحاد المحاكم الإسلامية والغزو الاثيوبي على الصومال وإعادة عسكرة المجتمع الصومالي بعد أكثر من عقد ونتائجه المدمرة تعتبر سببًا مباشرًا لتحول مسار الحرب الأهلية الصومالية من حرب قبلية قائم على الصراع حول مصالح سياسية إلى حرب ذو أبعاد دينية وأيدولوجية، لديه ارتباطات اقليمية ودولية معقدة ، ويعد الخاسر الأكبر هم الإسلاميون انفسهم والتيار المعتدل منهم حيث تم نسف رصيدهم في التعليم والتنمية(7) التي قاموا بها خلال العقد الأول من الحرب الأهلية في الصومال.
بقلم/ الدكتور محمد إبراهيم عبدي
أستاذ بالجامعة الوطنية وجامعة مقديشو
الهوامش
———————————————————————————————————
(1) Georg-Sebastian Holzer, POLITICAL ISLAM IN SOMALIA
A fertile ground for radical Islamic groups, p 29.
(2) للمزيد حول مبادئ حركة الاصلاح واستراتيجيتها راجع:
Abdurahman M. Abdullahi, THE ISLAH MOVEMENT: Islamic Moderation in War-torn Somalia, Mogadishu, Somalia, October, 2008, P. 9
(3) محمد الأمين محمد الهادي، تقييم فترة حكم المحاكم الإسلامية، تقرير الإسلاميون الصوماليون- من الهامش إلى مركز الأحداث، مركز الشاهد للبحوث والدراسات الإعلامية ، تقرير نصف سنوي، العدد الأول يناير 2010، ص 55.
(4) Georg-Sebastian Holzer, Op. Cit. P. 30.
(5) عبدي يوسف فارح، صعود المحاكم الاسلامية في الصومال- بين ثورة للتغيير وتجسيد للتطرف،دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 2016، ص 13.
(6) Georg-Sebastian Holzer, Op. Cit. P. 33.
(7) لمعرفة المزيد على دور حركة الإصلاح في الصومال راجع:
Abdurahman Moallim Abdullahi, THE ISLAMIC MOVEMENT IN SOMALIA: A Historical Evolution with a Case Study of the Islah Movement, (1950-2000), Montreal, May, 2011, P. 287-293.
تعليقات الفيسبوك