بقلم/ د. عبد الرحمن باديو
وُلد عبد الله عيسي عام 1921 في مدينة أفغوي الواقعة حوالي 30 كم جنوب مقديشو. توفي والده محمد المعروف بـ محمد بدار-شيخ محترم- قبل أن يولد عبد الله، وكفلت والدته مريم ديني أحمد، وقامت بتربيته كيتيم. والده ينحدر من مدينة هوبيو الساحلية، كما أن والدته تنحدر من مدينة عبودواق. المدينتان تقعان في ولاية غلمدغ في وسط الصومال. ومن المصادفة، أن تاريخ ميلاده، تزامن مع نهاية حركة الدراويش التي قادها محمد عبد الله حسن، وقد يدل تقارب التاريخين على قدرالله المسبق لاستمرار النضال الصومالي ضد الاستعمار بوسائل مختلفة وتجدّد ظهور حاملي راية الحركة النضالية مع تقدم الزمن. على الرغم من أن نسب عبد الله عيسي يعود إلى أسلافه في فرع قبيلة هبر جدر/سعد في ولاية غلمدغ، فإن نشأته في المراكز الحضرية مثل (أفغوي، مقديشو، ومركا) والتي كانت من ضمن منطقة بنادر قد أكسبته سمات ثقافية مختلفة. كان معروفًا بسلوكه المحترم، وتواضعه، ومدنيته، وطبعه المعتدل، ووقاره، وهو ما يتناقض مع الثقافة البدوية السائدة المرتبطة بمعظم السياسيين المنحدرين من تلك الثقافة. عرف باسم “بدار” الذي هو لقب والده، وبدأ تعليمه بحضورمدرسة ابتدائية إيطالية في مقديشو، حيث تعلم اللغة الإيطالية، وفي الوقت نفسه التحق بمدرسة قرآنية . والجدير بالذكر، أن تعليم القرآن للأطفال في سن مبكرة هو ثقافة شائعة في الصومال كمرحلة أولى من التعليم الإسلامي التقليدي.
خلال فترة حكم الفاشي، اكتسب الصوماليون حق الوصول إلى تعليم محدود عند المستوى الابتدائي فقط، مما يبرز السياسات القمعية والقيود المفروضة على تطورهم الفكري. وحتى مع اقتراب بداية الحرب العالمية الثانية، ظل عبد الله عيسي منشغلًا في مدرسته. عندما بلغ 18 عامًا، حصل على أول وظيفة له وكانت تلك الوظيفة بمثابة كاتب بريد في مدينة مركا الساحلية ، وعمل فيها من عام 1939 إلى 1941. وبعد ذلك، عاد إلى مقديشو، وعمل في قسم الشؤون الاقتصادية خلال الأشهرالأخيرةمن الحكم الإيطالي في الصومال. هبت رياح التغييرعلى منطقة القرن الأفريقي مع الاحتلال العسكري البريطاني للصومال الإيطالي في عام 1941 وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وخضعت جميع الأراضي الصومالية باستثناء جيبوتي تحت الإدارة البريطانية. في الاضطراب الذي أعقب ذلك، تم إعفاء عبد الله من واجباته الرسمية، وحصل وظيفة أخرى في مدينة بلدوين كسكرتيرمكتب البريد في المدينة. ثم دخل في مجال الأعمال في مدينة بلدوين، وهكذا بدأ فصل جديد في حياته الحافلة بالتفاني والألتزام في الخدمة الوطنية. تميز عبد الله عيسي بقدرته القيادية الريادية في السنوات الأولى من تحرير الصومال الوطني وتفانيه المستمرفي مبادئ وقيم رابطة الشباب الصومالية. (SYL) هذا التفاني ظل ثابتًا منذ انضمامه إلى نادي الشباب الصومالي (SYC) في عام 1944 إلى جانب زملائه في فرع نادي الشباب الصومالي في مدينة بلدوين، مثل آدم عبد الله عثمان (1908-2007) والشيخ علي جمعالي (1905-1979)، ويُعد عبد الله أحد القادة القلائل الذين شكلوا مسارالتاريخ السياسي للدولة الصومالية .
بعد تحول نادي الشباب الصومالي إلى حزب رابطة الشباب الصومالية في عام 1947، انتُخب نائبًا للأمين العام للحزب خلفا لـ ياسين حاج عثمان، أحد مؤسسي نادي الشباب الصومالي وأول أمين عام له، والذي توفي في نفس العام. من عام 1947 إلى عام 1956، شغل عبد الله عيسي منصب الأمين العام لحزب رابطة الشباب الصومالية لمدة عقد تقريبًا، وقاد المنظمة في أوقات مضطربة بحزم وتصميم. كانت قيادته حاسمة في حشد الدعم لاستقلال الصومال وتوجيه رابطة الشباب الصومالية نحو هدف مشترك يتمثل في تحقيق تقرير المصير ونيل الاستقلال. كان يدعو بلا كلل إلى توحيد جميع الصوماليين الذين كانوا خاضعين تحت أربعة حكومات استعمارية مختلفة (إيطاليا، بريطانيا، فرنسا، وإثيوبيا). وتأثيره تجاوزالحدود الوطنية عندما بدأ في رحلات دبلوماسية إلى باريس ونيويورك، ممثلًا للحزب ومدافعًا عن الحقوق القانونية الأصلية للشعب الصومالي في تقرير المصير والاستقلال . ظهرت مهاراته الدبلوماسية والتزامه الثابت بتقدم قضية الصومال على المسرح العالمي بقوّة أثناء فترة ولايته كمندوب للحزب في مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة من عام 1950 إلى عام 1954 .
صنع التاريخ المشرف في عام 1956، عندما أصبح أول رئيس وزراء صومالي في ظل الإدارة الإيطالية تحت الوصاية الأممية. وقد قاد البلاد خلال هذه البيئة السياسية المعقدة، حيث بدأ ظهور القبلية السياسية في فرض تأثيرها وبسط قوتها. وعلى الرغم من أن رابطة الشباب الصومالية ،كانت تدعو لنظام حكم غير قبلي، إلا أن أول اختبارعملي لمبدأها لم يكن واعدًا كما كان مأمولًا، حيث يذكر أن بعض أعضاء الحزب الكبار استسلموا للمحسوبية والوساطة القبلية. تصادم تأسيس نظام سياسي قائم على الجدارة مع الولاءات القبلية الراسخة، مما أدى تدريجيًا إلى تآكل مبادئ رابطة الشباب الصومالية الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، تعاملت الحكومة والحزب مع تأثير اليساريين المتزايد من بعض السياسيين الذين أثاروا التوترات بين الإيطاليين والحزب والحكومة، مما أدى إلى تغيير أوإعفاء رئيس الحزب الحاج محمد حسين من منصبة في الحزب. فيما كان عبد الله عيسي يتعامل مع النظام الجديد للحكم ، ويحاول التكييف معه لصالح أهداف الحزب ، برزت التوترات بين المبادئ السياسية للحزب والانتماءات القبلية، وأصبحت المهمة الصعبة المتمثلة في توجيه الصومال نحو مستقبل موحد وشامل . وبعد الاستقلال، تم تعيين عبد الله عيسي وزيرًا للخارجية في الحكومة التي قادها رئيس الوزراء عبد الرشيد علي شارماركي (1960-1964). كان تعيينه جزءًا من الاستمرار بروح الوحدة الوطنية وبناء ائتلاف كبير يشمل أبرزالشخصيات السياسية في الحكومة، على الرغم من معارضتهم لانتخاب الرئيس عدن عبد الله عام 1961.
شهدت فترة عبد الله عيسي كوزير للخارجية عمله كمبعوث للصومال في الساحات الدولية، ممثلًا للأمة الصومالية كلها في منتديات مثل الأمم المتحدة (UN) ومنظمة الوحدة الأفريقية (OAU) وحركة عدم الانحياز، مسلحًا بالتزامه بتعزيز مصالح الصومال على الساحة العالمية، قام بالتواصل دبلوماسيًا لتأمين الدعم لتحقيق حق الشعب الصومالي في تقرير المصير وسلامة أراضيه. في هذه التجمعات والاجتماعات، عبرعبد الله عيسي عن موقف الصومال بشأن قضايا مختلفة تتراوح من السيادة والنزاعات الإقليمية مع إثيوبيا وكينيا وفرنسا وصولا إلى الاستقرارالإقليمي والتنمية الاقتصادية. حضورعبد الله أظهر بروز الصومال كدولة ذات سيادة بصوت مميز في المساهمة على تشكيل مسارالشؤون الأفريقية والدولية. كما شغل العديد من المناصب الوزارية في جميع الحكومات المدنية حتى الإطاحة بها من قبل الانقلاب العسكري في عام 1969 . اعترفت الحكومة العسكرية الجديدة بخبرة عبد الله عيسي ونضاله من أجل استقلال الصومال، مما أدى إلى تعيينه سفيراً للصومال في السويد عام 1974. خلال المؤتمر الافتتاحي لمنظمة الشباب الثوري الصومالي الذي عُقد في مقديشو في 15 مايو 1977، قام الجنرال محمد سياد بتكريم عبد الله إسسي بميدالية ذهبية مرموقة تقديراً لإسهاماته البارزة وتفانيه لقضايا خدمة الوطن. استمر عبد الله في تمثيل الصومال على الساحة الدولية كسفيرمتميز لبلده لغاية عام 1986 وترك للعمل السياسي والدبلوماسي الوطني بصمات خالدة ، واختار عبد الله عيسي التقاعد من المنصب العام من محض إرادته، وعاد إلى روما بإيطاليا، حيث عاش حياة هادئة.
انتهى الفصل الأخير من إسهام عبد الله عيسي الوطني الرائع في مارس 1988 عندما توفي في روما. نقل جثمانه إلى مقديشو، حيث دفن في المقبرة الوطنية بجوار الرئيس عبد الرشيد علي شرماركي. وقد حظي بجنازة رسمية، وانضم إلى أفراد عائلة عبد الله وأصدقائه وقدامى رابطة الشباب الصومالية والحزب والرئيس آدم عبد الله عثمان، وكذلك الرئيس محمد سياد والمسؤولين الحكوميين في مشهد الدفن المهيب. رحلة حياة عبد الله عيسي هي شهادة على الاحترام التلقائي الذي حظي به كل من عرفه طوال حياته . كانت علاقاته تقوم على التفاهم والتعاون المتبادل في الحياة ، متجنباً خلق خصومات غير مجدية. كان تركيزه موجهًا بشكل أساسي نحو خدمة وطنه وحكومته بأقصى درجات الإخلاص والتفاني. يُشابه عبد الله عيسي الرئيس آدم عبد الله في تجنبهما المتعمد لخلق الخصومات غير المبرّرة وإظهار الأخلاق الحميدة. ثقافة هذين القائدين متجذرة بعمق في المبادئ الأساسية لرابطة الشباب الصومالية وتجسد قيمها الجوهرية، متبنيةً قيم الوحدة والفخر الوطني . إن سرد قصة حياة عبد الله عيسي يسلط الضوء على الأمثلة المتميزة التي وضعها قادة بارزون كرسوا حياتهم بأكملها لتحقيق استقلال الصومال ووحدته وسيادته التي يستأنسها الصوماليون اليوم باعتزاز وفخر. تلهم حياته القادة السياسية الصومالية الحالية والأجيال القادمة، وتؤكد على أهمية التعلم من التفاني والتضحيات التي قدمها مثل هؤلاء الشخصيات البارزة. من خلال التزامه الثابت تجاه وطنه، يقدم إرث عبد الله عيسي دروساً قيمة لأولئك الذين يطمحون إلى القيادة بنزاهة ورؤية حكيمة.
تعليقات الفيسبوك