ما راج من طلب المعيشة بين إخوان الكساد
هكذا قالها واضحا الشاعر ابن النحاس الحلبي، ومن أجلها ثار الحلبيون صونا للكليات الخمس، فهم بحق كما قال شاعرهم أبو فراس الحمداني:
من كان مثلي لم يبت إلا أسيرا أو أميرا
ليست تحل سراتنا الإ الصدور أو القبور
إن الحلبيين غرسوا شجرة الحرية عميقة ورووها بدمائهم الزكية وأشلائهم المتناثرة حتى أمنت الاقتلاع بهبوب الرياح والعواصف العاتية، ينطبق عليهم اليوم قول أبي فراس الحمداني:
يقولون لم ينظر عواقب أمره ومثلي من تجري عليه العواقب
أرى ملء عيني الردى فأخوضه إذ الموت قدامي وخلفي المعاتب
عليّ طِلاب المجد من مستقره ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب
وهل يرتجى للأمر إلا رجاله ويأتي بصوب المزن إلا السحائب
فو الله، إن حلب الشهباء هي اليوم أجمل وأطهر وأنظف وأرجى، هي اليوم أعرق وأفضل وأشرف وأحب، وواهم من يظن أنها سقطت بل تحررت إلى الأبد، ولو كان لي من الأمر شيء لأمرت حفظ معالمها كما هي اليوم دون أي تغيير، لتكون رمزا للوفاء والتضحية من ناحية وللجبروت والنذالة من ناحية أخرى، ولتجسد حال الفريقين وبأبلغ تعبير كما قالها شاعر الشام الأمير منجك باشا اليوسفي:
ومن طينة كل الجسوم تكونت فيعلم هذا حاذق وخبير
فمنها ذوات قذرت فتدنست ومنها ذوات قدست فعبير
وما هذه الأيام إلا مراحل وفي منتهاها جنة وسعير
إذا كانت الأقدار تجري بما تشا فقل لي ما صنعي وأين أسير
ولكن حسن الظن يسكن روعتي ويخبرني أن الكريم غفور
صحيح أن أن عصرا ينعى إليك الحبيبا ما أُراه يفوح مسكا وطيبا
يا أهلنا في حلب الأبية، إن الأمة الإسلامية المنهزمة تستحق منكم مثل هذه التضحية الجسيمة جدا في حقكم والتي لولاها ستبقى في هذا الوحل الآسن سنين عددا، أما اليوم وقد قدمتم ما استطعتم قياما للواجب عن الأمة العابثة والغائبة والمتورطة والقاتلة والخاذلة والمتفرجة والمغلوبة والخائفة والمترددة كل حسب موقعه، فلقد جعلتم الطريق سالكا ولا عذر لمن تخلف، فلا نامت أعين الجبناء.
وهما وقصر نظر يظن الغزاة أنهم انتصروا، ولكن هيهات هيهات، وألف هيهات، وأنى لهم ذلك قاتلهم الله وقد رأينا وحشيتهم على البشر والحجر، إذ قتلوا مئات الآلاف من السوريين أثناء في الثورة وقبلها… إن السوريين أدركوا اليوم أكثر من أي وقت مضى ألا سبيل أمامهم غير سبيل الحرية، ولا تتعدد عندهم الخيارات بعد ما رأينا وحشية تحالف القتل؛ ولأن طعم الموت في أمر حقير كطعمه في أمر عظيم، كما أن الذين يعاش في أكنافهم ذهبوا وبقينا في خلف هم الأنعام أو كجلد الأجرب، ألا لا يظنن تحالف القتل أن الأبواب انسدت علينا لتقع نفوسنا في اضطراب واكتئاب، بل على العكس تماما استبقاكم الله ما يسوءكم وينوءكم بعد كل هذه الفطائع التي اقترفوها، وسيدفعون الثمن أغلى وأغلى، وسيتقاضى الغريم حقه كاملا وحالا.
إن اليوم يوم فرح وعزاء وجزاء، يوم فرح للحلبيين بأن يستعملهم الله ولا يستبدلهم، ويوم عزاء لمجموع الأمة الذين خذلوا، وجزاء لتحالف القتل بما اقترف في الأيام الخالية، فهنيئا لهم كل يأكل زاده.
وحبذا حلب.
بقلم: الدكتور محمد حسن نور
تعليقات الفيسبوك