في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والذي امتد إلى أوائل القرن العشرين، ومع توسع القوى الأوروبية، أصبح علماء الإسلام شخصيات بارزة في تنظيم وقيادة المقاومة الصومالية ،كان هؤلاء العلماء يرون أن الدفاع عن الأراضي الإسلامية ضد الغزاة المسيحيين—وهم الإيطاليون والبريطانيون والفرنسيون والإثيوبيون—واجبًا إسلاميًا. وقد عُرفت هذه الفترة لاحقًا بـ “عصر الشيوخ”، كما أطلق عليها البروفيسور سعيد سمتر .
ومن أبرز العلماء الذين حملوا السلاح هم قادة حركة الدارويش، مثل سيد محمد عبد الله حسن (1856–1920)؛ الشيخ أحمد غبيو، قائد المقاومة في منطقة ورشيخ وعذله (1844–1933)؛ قائد مقاومة بيمال، الشيخ عبدي أبيكر غفلي (1852–1922)؛ الشيخ حسن برسني (1852–1927)؛ الشيخ بشير شيخ حسن (1905–1945)؛ والشيخ أحمد حاج مهدي، معلم مقاومة لفولي ضد الإيطاليين (1896). ومن أوجه التشابه الرئيسية بين معظم هؤلاء العلماء هو أنهم كانوا من خلفية بدوية، ولهم وارتباطات مع الطريقة الصالحية الصوفية، التي أثرت رؤيتها للعالم بشكل كبير على نهجهم في المقاومة.
وإلى جانب ذلك، دعم العديد من العلماء المقاومة السلمية خصوصا الذين كانوا يعيشون بين المجتمعات الزراعية والمراكز الحضرية وذلك بهذف حماية التقاليد والممارسات الإسلامية، والحكم الذاتي المحلي من خلال التعليم، والحوار وبناء المجتمع. كان نهجهم مختلفًا عن المجاهدين المسلحين، لكن أهدافهم لم تختلف، وكانت مساهماتهم لا تقدر بثمن في الحركة العامة للمقاومة. كانت الأشكال المسلحة والطرق السلمية من المقاومة ضد الاستعمار مكملة لبعضها البعض وتمثل وجوهًا مختلفة من نفس الكفاح.
وصف جورجيو سورنتينو، المفوض الإيطالي لبنادر المعين بعد عام 1896، العلماء السلميين بالقول:” إن رجال الدين هم أسوأ العناصر. إنهم يبشرون بالكراهية الدينية.” بالإضافة إلى ذلك، لاحظ المؤرخ البروفيسور لي كسانيللي أن القادة الدينيين كانوا في طليعة المقاومة المناهضة للاستعمار في جنوب الصومال.
كان الشيخ حسن برسني في جنوب الصومال صوتًا رائدًا للمقاومة ضد التمدد الإثيوبي والاحتلال الاستعماري الإيطالي، داعيًا إلى الجهاد للدفاع عن الأراضي الصومالية. يشير هذا الجهاد ضد القوتين إلى كيفية حمل علماء الإسلام السلاح لحماية إيمانهم وتحصين طريقة حياة الصوماليين. كانت هذه المهمة المزدوجة للدفاع عن الإسلام والحفاظ على الهوية الصومالية هي التي رسخت وقادت مقاومة الشيخ خلال هذه الفترة. يعتبر الشيخ برسني قائدًا مناهضًا للاستعمارومجاهدًا قاتل بشدة ضد التوسع الإثيوبي والإمبريالية الإيطالية المتعاونة. على الرغم من وجود سجلات تاريخية محدودة عن حياة وجهاد الشيخ حسن برسني، إلا أن إرثه يبقى في ذاكرة الصوماليين كبطل مقاوم ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي في فترة عصيبة. تحاول هذه المقالة إلقاء نظرة أقرب على حياة الشيخ برسني، وجهاده، ومقاومته ضد التهديدات المزدوجة للقوات الإثيوبية والإيطالية. لقد استمر إرثه في تذكير الصوماليين بالارتباط العميق بين الإسلام والثقافة والسياسة المحلية في كفاحهم المستمر من أجل الحرية.
وُلد الشيخ حسن برسني في عام 1853 في قرية أوبادي، التي تقع على بعد 68 كيلومترًا غرب جوهر في ولاية هيرشبيلي الحالية في الصومال. منذ صغره، أظهر الشيخ برسني موهبة استثنائية في التعلم الإسلامي. حفظ القرآن في وقت مبكر من حياته، وهو إنجاز رئيسي في الدراسات الإسلامية. كان والده شيخًا بارزًا ومعلمًا للقرآن، وقد غرس فيه شغف التعلم الإسلامي. استنادًا إلى هذا الأساس، تابع دراسات دينية متقدمة، مع التركيزعلى الفقه الإسلامي والتعاليم الصوفية. كجزء من رحلته الروحية، سافر الشيخ حسن برسني إلى مكة لأداء الحج حيث قضى ثلاث سنوات غارقًا في مزيد من الدراسات الإسلامية والنمو الروحي. التقى الشيخ محمد صالح، زعيم الطريقة الصالحية في مكة المكرمة . كانت فترة حياته في مكة نقطة تحول في حياته، مما قاده إلى تبني تعاليم ومبادئ الطريقة الصالحية. عند عودته إلى الصومال، أصبح واحدًا من الشخصيات الرئيسية المسؤولة عن نشر الحركة الصالحية في المنطقة، والتي عُرفت بتعزيز الإصلاح، والتجديد الأخلاقي، والمقاومة ضد القوى الاستعمارية.
برزت الطريقة الصالحية في الصومال لدورها النشط في مقاومة القوى الاستعمارية خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. على عكس الطرق الصوفية الأخرى التي ركزت بشكل أساسي على الممارسات الروحية والمقاومة السلمية، دمجت الصالحية مهمتها الدينية مع التزام قوي بالنشاط السياسي والمقاومة المسلحة ضد الهيمنة الأجنبية المتزايدة في البلاد . أصبحت الطريقة قوة مركزية في العديد من الحركات المناهضة للاستعمار.
ومع ذلك، أظهرت الصالحية أيضًا قدرة على المقاومة السلمية في المجتمعات الزراعية المستقرة. على سبيل المثال، أسس الشيخ محمد جوليد الرشيدي 15 مركزًا للطريقة الصالحية على طول نهر شبيلي، وأبرز هذا التوازن بين النهج المسلح والسلمي مرونة الطريقة في مواجهة القمع الاستعماري.
كان حكم إيطاليا في بنادر مميزًا بفرض سياسات فاشية منذ عام 1923 تهدف إلى استغلال الموارد المحلية، وفرض نظامها القانوني، وقمع أي شكل من أشكال المعارضة. وكانت سيطرتهم محدودة بشكل أساسي على منطقة بنادر، التي تشمل المناطق الساحلية الرئيسية بما في ذلك مقديشو والمدن الساحلية المحيطة بها. ومع ذلك، كانت إيطاليا تكافح للسيطرة الكاملة على المناطق الداخلية من الصومال.
في المناطق النائية، وخاصة في وسط وجنوب الصومال، حافظت حركات المقاومة التي قادها زعماء صوماليون مثل الشيخ حسن برسني وزعماء محليين آخرين على درجة كبيرة من الحكم الذاتي.وبالطبع، كانت هذه المناطق أقل وصولاً للإيطاليين، وواجهوا مقاومة قوية من المجتمعات المحلية التي رفضت الخضوع للسلطة الإيطالية الأجنبية.
علاوة على ذلك، خلال حكم موسوليني الفاشي (1923-1941)، تجلت أساليب الحكم الوحشية. استخدمت الحكومة تكتيكات عسكرية صارمة لقمع أي شكل من أشكال المقاومة أو المعارضة بين السكان الصوماليين وذلك في الوقت الذي كانت فيه السيطرة الإيطالية تتعزز،.
تم فرض العمل القسري والضرائب الثقيلة والقوانين التمييزية، مما حرَم الصوماليين من حقوقهم السياسية والاجتماعية. قاد ماريا تشيكي، الجنرال الفاشي المعين محافظًا على الصومال، حملة لتمديد السيطرة الإيطالية من منطقة بنادر الساحلية إلى جنوب الصومال، مستخدمًا تكتيكات وحشية لقمع المقاومة. كانت هذه التوسعات تهدف إلى دمج جنوب الصومال مع اثنين من السلاطين هما : سلطنة هوبيو ومجيرتينيا، الذين كانوا تحت الحماية الإيطالية والحكم الإيطالي غير المباشر. على الرغم من هذه الجهود، استمرت المجتمعات الصومالية في المقاومة، مما أظهر قدرتها على الصمود ضد الهيمنة الاستعمارية. ومن الملفت للنظر، أن الشيخ قاتل على جبهتين في وقت واحد ومتزامن : ضد القوات الإثيوبية في عام 1905 ولاحقًا ضد الفاشية الإيطالية في عام 1924. وكانت مقاومته تتميز بجهوده الفردية لحماية الأراضي الصومالية من كل من التوسع الإثيوبي وهيمنة الاستعمار الإيطالي.
في عام 1905، أطلق رأس مكونن، والد الإمبراطور هيلى سلاسي، حملة عسكرية إلى منطقة بنادر كجزء من استراتيجية إثيوبيا الأوسع للسيطرة على المناطق الساحلية في القرن الأفريقي. جاء هذا التحرك في وقت كانت فيه القوى الاستعمارية الأوروبية، ولا سيما إيطاليا، توسع نفوذها في المنطقة. وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، تعرضت جيش رأس مكونن، المكون من 3000 رجل، معظمهم من الفرسان، للتدمير تقريبًا، حيث تمكن 69 جنديًا فقط من الهروب والعودة إلى إثيوبيا سالمين. برز الشيخ حسن برسني كشخصية رئيسية في تنظيم المقاومة ضد الغزو الإثيوبي.
جمع قوة موحدة من الأقارب والحلفاء، بما في ذلك وحدات قادها طلابه الموثوقون أوالمقربون، الشيخ أبكر والشيخ أوياي، الذين كانوا مستعدين للمعركة حتى النهاية. لعب السلطان ألول دينلي من مدينة مستحيل أيضًا دورًا حاسمًا، حيث قدم الإمدادات والدعم لقوات المقاومة
دخلت قوات الشيخ حسن برسني في معارك متتالية مع الجنود الإثيوبيين في جبهات قتالية استراتيجية مثل جالو كارور، بولو برتي، ياقباري وين، وعيل عبد. أدت هذه المعارك الشديدة في النهاية إلى إجبار قوات الشيخ الغزاة الإثيوبيين على مغادرة منطقة بنادر. أنقذت هذه المقاومة الصومال المزيد من التسلل الإثيوبي، وساعدت أيضًا في الحفاظ على الحكم الذاتي المحلي ضد العدوان الأجنبي.
شاركت العديد من القبائل في هذه المقاومة ضد الغزو الإثيوبي لبنادر، من بينها القبائل غالجعل، موبلين، وأبغال، وشيدله في المعركه النهائية. كما يوضح المؤرخ الإيطالي روبرت هيس، فإن إيطاليا تحملت مسؤولية إنشاء مستعمرة في جنوب الصومال في عام 1905، وهو عام الغزو الإثيوبي. ومع ذلك، كانت سلطتها مقصورة على المنطقة الساحلية المعروفة باسم بنادر، ولم تفعل شيئًا للتدخل في دفاعها ضد التسلل الإثيوبي
من ناحية أخرى، وقعت إيطاليا تحت النظام الفاشي في عام 1923 وعينت الجنرال إميليو دي فيكي محافظًا على الصومال. بينما كان البريطانيون يعززون قبضتهم على أرض الصومال، وجد دي فيكي فرصة ممتازة لإخضاع الشيخ حسن برسني أخيرًا وتحقيق حلمه الذي طالما راوده في إقامة ” الصومال الكبرى “. في ذلك الوقت، كان الصوماليون مسلحين بحوالي 16,000 بندقية. تم تنفيذ سياسة نزع السلاح كخطوة أولى في الحملة الأوسع لاحتلال جميع الأراضي في جنوب الصومال. لذا، دعا دي فيكي الشيخ حسن في عام 1924 وقدم له إنذارًا ليضع سلاحه ويستسلم أمام الحكم الإيطالي. ومع ذلك، دعا الشيخ حسن إلى اجتماع مع شركائه وقرر إرسال رسالة تحدٍ موجهة إلى دي فيكي. وكتب قائلا :
باسم الله الرحمن الرحيم… لقد تلقيت رسالتك وفهمت محتوياتها، لكننا لا يمكننا طاعة أوامرك أو الدخول في عهد معك. حكومتك لها قوانينها، ولنا قوانيننا. نحن لا نقبل أي قانون سوى قانوننا الخاص—قانون الله ورسوله. نحن لسنا مثل الآخرين؛ لم يخدم أي منا أبدًا في القوات الاستعمارية—أبدًا! إذا جئت إلى أرضنا لمحاربتنا، سنقاوم بكل الوسائل الممكنة. إن العالم يقترب من نهايته، ولم يتبق سوى 58 عامًا. لا نرغب في البقاء في هذا العالم. من الأفضل أن نموت دفاعًا عن قوانيننا
دي فيكي أمر جنرالاته بشن هجمات عسكرية عنيفة ضد الشيخ حسن، وطلب منهم القبض عليه حيًا أو ميتًا. في مارس 1924، أطلق الإيطاليون هجومًا على الشيخ حسن، تضمن هجومًا ثلاثي المحاور: كتيبة مكونة من 1000 جندي استعماري من مقديشو، و1000 من ورشيخ، و1000 أخرى من منطقة جزيرة جنوب مقديشو. كانت هذه الخطط تهدف إلى محاصرة منطقة تأثير الشيخ حسن التي امتدت من قرية محاس في وسط الصومال إلى بلدوين في الغرب، وحتى ليغو وبلعد، قرب الساحل. في ذلك الوقت، كان الشيخ حسن قد تراجع عن ساحل بنادر، وانهارت تحالفاته مع إثيوبيا بعد الإطاحة بالإمبراطور المسلم أياسو، مما أدى إلى قطع العلاقات مع القادة الصوماليين. لكن هذه النكسات لم تثنِ قوات الشيخ حسن، الذين كانوا مصممين على الدفاع عن وطنهم. خرج مئات من مقاتلي حسن من مهداي للمشاركة في قتال عنيف ضد العدو الذي كان يقترب منهم. كانت المعركة في بيو عدي بين مهداي وعدلي قاسية بشكل خاص، حيث سُفك الكثير من الدماء قاد هذه المعركة الشيخ أبيكر عدي، الذي قُتل بوحشية على يد الإيطاليين.
استمرت القوات الإيطالية في تقدمها واستولت على ونلاوين، تلتها منطقة جوهر. حولت مقاومة الشيخ حسن، رغم كل الظروف، أمام التقدم العدائي المستمر من الإيطاليين، إلى رمز للتحدي ضد العدوان الاستعماري. ومع استمرار الحرب والضغط المتواصل من الإيطاليين المتقدمين، بدأت قوات الشيخ حسن برسني تتناقص تدريجيًا. من خلال خط إمداد متماسك واستيلائهم على المزيد من القرى، وصل الإيطاليون أخيرًا إلى جليالي، أكبرمعقل للشيخ حسن، ودمروا مواشيه وكنوزه وهزموا محاربيه وتم القبض على الشيخ حسن أخيرًا، مع رفيقه حسين طقنى.
على الرغم من الأوامر الإيطالية السابقة بإعدام جميع الأسرى في الحملة، تدخل الجنرال دي فيكي لإنقاذ حياة الشيخ حسن، بينما تم إعدام رفاقه وتلاميذه. تم إلقاء الشيخ حسن في سجن مقديشو المركزي، حيث حُكم عليه بالسجن مدى الحياة وعُذب بشدة تحت سياسة الفاشية الإيطالية. بعد عامين من السجن البائس، توفي الشيخ حسن في عام 1926 عن عمر يناهز 73 عامًا. حضر جنازته الآلاف، ودفن في ضاحية قريبة من السجن. احتُفل بالشيخ حسن برسني كشهيد لقضيته النبيلة، ووجدت كفاحه تكريمًا حتى في شخصيات مثل الشاعر الشيخ أحمد غبيو. في عام 1923، وحد القائد الصوفي براكي عدة مستوطنات من الجماعة وأسس مقرًا في مدينة براوه. وقد تم القبض عليه أيضًا وقتل في عام 1928. على الرغم من هذه النكسات، أصبح السيطرة الإيطالية في المنطقة تدريجيًا أكثر رسوخًا.عاشت أسطورة الشيخ حسن لتكون رمزًا للمقاومة الوطنية ضد الظلم الاستعماري. واحتفل الحكومة الصومالية بالشيخ حسن برسني من خلال تسمية مدرسة ثانوية باسمه في مقديشو
أخيرًا، هناك طلب متزايد على البحث في تاريخ مقاومة الاستعمار في جنوب الصومال، وذلك لأن القليل قد كُتب عن هذه المنطقة.
توفر هذه المنطقة فرصًا عدة للباحثين الجدد في العلوم التاريخية والسياسية وربما الاجتماعية بشكل عام، مما يوفر نظرة عميقة على المقاومة الصومالية ضد الاستعمار. يفتح هذا التاريخ مع سردية معقدة وغنية من المقاومة لم يتم التطرق إليها كثيرًا، وبالتالي يمثل مساهمة مهمة نحو المعرفة بتاريخ الاستعمار في القرن الأفريقي.
الكاتب :د. عبد الرحمن باديو
تعليقات الفيسبوك