الوعظ وسيلة هامة من وسائل الدعوة ، واستخدمها نبي الإسلام كثيرا للوصول إلى القلوب ، وقديما قال الحكماء من الدعاة ، ما خرج من القلب ، وصل إلى القلب بلا استئذان ، ولكن ما خرج من طرف اللسان ، لا يتجاوز الأذن التى سمعته.
قال تعالى لنبيه : (وعظهم ، وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا ) ، فالوعظ كما رأينا من هذه الآية وسيلة هامة ، ولكنها ليست الوسيلة الأولى والأخيرة للدعوة ، فهناك وسائل أخرى للوصول إلى العقول ، وخاصة العقول الكبيرة ، ولهذا قال تعالى لنبيه مرة أخرى ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتى هي أحسن ) ، هنا ، نلاحظ أمرا هاما وهو أنه لا بد من إستخدام أمور ثلاثة فى مجال الدعوة وهي :
١ — استخدام الحكمة فى الدعوة ، والحكمة هي وضع الشيء فى موضعه ، دون تضخيم له ، أو تصغير ، فلكل شيء فى الدين موقعه ، ففى الإسلام عقيدة ، وعبادة ، وأخلاق ، وشريعة ، ولديه أولويات فى عرضه على الناس ، كما أن علماء الفقه يهتمون بفقه الموازنة ، فلا تقديم ما من شأنه التأخير ، ولا يؤخر ما من شأنه التقديم .
الحكمة تعنى مخاطبة أهل العقول بمقتضى العقل ، فالوحي السماوي إهتم بالعقل ، والفكر ، والبرهان ، والحجة ، والدليل ، وإعمال العقل ، كل ذلك من الحكمة ، ذلك لأن الوحي منزل من الله العليم الحكيم ، وليس من شأنه أن يناقض العقل الصريح ، والعلم الصحيح ، ولكن المشكلة تكمن فى حملة العلم الشرعي حين يتحولون من الخطاب الديني الرزين إلى الخطاب الوعظي التى يخاطب العواطف فقط .
٢ — الموعظة الحسنة وسيلة ثانية ، ومهمة فى تبليغ دين الله تبارك وتعالى ، فالإنسان ليس عقلا فقط ، كما أنه ليس عاطفة فقط ، بل هو عقل وعاطفة ، ومن أهم الخطابات المؤثرة فى حياة الناس ، ما كان يمزج ما بين الخطاب العقلي الرزين ، والخطاب العاطفي الجياش .
فى الحديث ( وعظنا رسول الله سلى الله عليه وسلم موعظة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ) ، هكذا كان الخطاب النبي عليه الصلاة والسلام حين يلقى موعظة ، فكانت دوما بليغة ، لأنها تخرج من قلب حي .
الوعظ لا ينجح إلا بشرطين ، الشرط الأول : أن يكون حسنا ، أي أن يكون مقبولا شرعا ، ومعقولا معنى ، لدينا من يتحدث عن الغيب بالإسراف ، ودون محددات شرعية وعقلية ومنهجية ، ومن هنا يخلق بعض الوعاظ مناخا دينيا مكهربا ، أما الشرط الثانى فهو مراعاة الزمان والمكان ، فليس من الوعظ أن يتحدث الناس فى الغرب عن الأعراف الموجودة فى بلاد المسلمين ، ويجعلوها من الدين ، وخاصة فى المجالات الإجتماعية .
— الجدال بالتى هي أحسن ، وهذه الوسيلة تفيد مع الخصم الفكري ، سواء كان الخصم مسلما على غير مذهبك الفكري ، أو الفقهي ، أوالسياسي ، وقد يكون الخصم غير مسلم ، وهذا هو الأصل فى الخصم .
الجدل لأجل الجدل مذموم شرعا ، وما ضَل قوم بعد أن كانوا على هدى إلا أوتوا الجدل ، فهذا النص النبوي يفيد بأن الجدل لأجل الجدل ضلال ، ولكن الآية المحكمة تتحدث عن أهمية الجدل فى إحقاق الحق ، وإبطال الباطل .
لا بديل عن الجدل مع الآخرين فى الدعوة إلى الله ، وإن كانت الموعظة تتطلب ان تكون (حسنة ) فقط ، لأن الوعظ يكون فى الأصل بين المسلمين ، ولكن الجدل لا يجب فقط أن يكون حسنا ، بل يجب أن يأتى فى إطار أفضل من الحسن ، وهو ( الأحسن ) ، وأمر الله المسلمين أن يجادلوا أهل الكتاب ، ولكن بالتى هي أحسن ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن ) .
لدينا مراتب ثلاثة فى الدعوة إلى الله ، مرتبة أهل العقول ، ومرتبة أهل العواطف ، ومرتبة الخصوم ، ولكل واحد من هؤلاء خطابه ، ولهذا لو تأملنا خطاب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فى ثلاث وعشرين سنة نلاحظ مراعاته للمخاطب ، يرعى سنه كقوله ( يا غلام ، سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك ) ، كما نجد خطابه لنصارى نجران ، ومجادلته معهم بالحسنى ، ومجادلته كذلك مع المقوقس حين أرسل إليه الرسالة ، وذيلها ( قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلخ ) وهنا يرعى المناخ الثقافي للمخاطب .
لقد كان خطابه عليه الصلاة والسلام متنوعا ، ومتعددا ، فكلما تغير المخاطب ، تغير الخطاب معه ، وإن كان المحتوى واحدا ، ذلك لأن الرسالة فى مضمونها واحد ، ولكن الطرق إليها مختلفة ، باختلاف الناس من حيث السن ، ومن حيث النضج ، بل ويراعى فى خطابه الثقافة السائدة ، وهذا واضح من قوله ( إنك تأتى قوما من أهل الكتاب ) .
أين الخلل ؟
………………
فى الخطاب الإسلامي المعاصر مشكلتان ، وهما فى غاية الخطورة ، أكثرهما خطورة تكمن فى غياب فقه الموازنة فى هذا الخطاب ، وكذلك فقه الأولويات ، ولهذا نجد اليوم الخطاب الدعوي واحدا فى شكله ، ومتشابها فى مضامينه ، أما الخطورة الثانية فتمكن فى عدم مراعاة الخصوصيات الزمنية ، والمكانية ، كما لا يراعى الخطاب الحالى المستويات المختلفة للناس .
لدينا اليوم جيل من الشباب المتعلم ، والذى يبحث أجوبة جديدة عن تساؤلاته الغريبة ، ولكن الواعظ يشك فى مرامي الجيل ، وهذا يدل على نوع من الفشل فى الخطاب ، كما نجد اليوم فى المسلمين من تربى فى الغرب ، ولذا يطرح بعض التساؤلات العميقة التى وجدها فى المناخ الغربي ، وهو مناخ يقوم على البحث وطرح التساؤلات ، وتقديم الشك على اليقين .
فى العالم اليوم مشكلتان تواجهان الخطاب الديني ، المشكلة الأولى تكمن فى تساؤلات اللحظة المعاصرة مع غياب المفكرين الكبار ، والثانية تكمن فى إثارة الشهوات فى زمن غياب القيود الدينية والقانونية ، نحن فى لحظة العولمة ، ولكن بدون فقه لمقتضيات العولمة .
لقد تناول ابن القيم رحمه الله قضيتين خطيرتين فى الحياة البشرية ، وهما قضية الشبهة ، وقضية الشهوة ، ولكل عصر شبهاته ،. ولكل زمن شهواته ، فأصول الشبهات واحدة ، ولكن فروعها لا نهاية لها ، فهي متجددة مع تجدد الزمان والمكان ، وكذلك أصول الشهوات واحدة ، وهي التى قررتها سورة آلِ عمران ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب ) .
هذه هي الأصول الستة للشهوات ، ولكن تتفرع منها مئات من الشهوات التى يمكن إعادتها إلى هذه الأصول بوجه من الوجوه ، وقبلها تناولت السورة بعض الشبهات التى ترد على العقول (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ، وأخر متشابهات ، فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون فى العلم يقولون آمنا به ، كل من عند ربنا ، وما يذكر إلا أولوا الألباب )
نحن اليوم نعيش لحظة خاصة ، انتشرت فيها ثقافة الإلحاد بين الشباب ، والسبب هو أن فكرة التعليم مبنية على أسس قد تؤدى إلى الإلحاد ، ولكن المشكلة فى بعض جوانبها تعود الى غياب الخطاب الديني المتماسك أمام الهجمة الشرسة ، ولهذا يحاول بعض الشباب الهروب إلى الأمام .
أكد الشيخ ابن القيم بأن فتنة الشبهات تدفع باليقين ، وان فتنة الشهوات تدفع بالصبر ، هنا ، نجد حكمة بالغة فى كلام ابن القيم رحمه الله ، فهو من خلال كلامه يؤكد بأن فتنة الشبهة لا تندفع بالوعظ فقط ، وإنما باليقين ، والوصول إلى مرحلة اليقين فى المسائل العقدية تحتاج إلى دراسات مكثفة ، وليس فقط إلى حضور بعض المحاضرات الدينية ، والجلسات الروحية ، فهذه مهمة ، ولكنها لا تغنى فى مجال الشبهات ، فلا بد من رصد الشبهة ، وبحثها ، وتقديم الإجابات الكافية ، والتى تخرج من الإنسان من مرحلة التيه والضياع ، إلى مرحلة البحث والتساؤل ، وبالتالى ، يخرج الفرد من مرحلة التساؤل والبحث إلى مرحلة العلم واليقين.
إن الوصول إلى هذه الدرجة صعب جدا ، ولهذا كتب العلماء كتبا خاصة ، ومن أشهر الكتب فى هذا المجال ( قصة الإيمان ، بين العلم وفلسفة والقرآن ) لنديم الجسر ، وهو من أخطر الكتب التى تناولت الموضوع بعقلية علمية ، وفلسفية ، وإيمانية ، وتوصل إلى نتائج مبهرة ، وهناك كتاب آخر ألفه الشيخ على الطنطاوي بعنوان ( تعريف عام بدين الإسلام ) ، وهو أيضا كتاب جيد فى هذا المجال ، كما أن المفكر الهندي وحيد الدين خان أضاف إلى هذا المجال كتابه القيم ( الإسلام يتحدى ) .
حاول بعض العلماء فى هذا العصر أن يواجهوا الشبهات الفكرية ، والشبهات العقدية بفكر إسلامي مستنبط من الوحي ، ومن هؤلاء العلامة البوطي فى كتابه ( العقيدة الإسلامية ، والفكر المعاصر ) ، وكذلك الشيخ سعيد حوى فى كتابيه ( الله جل جلاله ) و ( الرسول صلى الله عليه وسلم ) .
لقد ناقش العلماء مسائل الألوهية بلا خوف ، وواجهوا الفكر الوافد بلا تردد ، وناقشوا القضايا كلها فى بساط البحث ، وناقش الدكتور عمر سليمان الأشقر الإلحاد من خلال الأدلة الشرعية والعقلية ، وأثبت العشرات من الأدلة فى وحود الله تبارك وتعالى ، ولكن بلغة العلم والعقل .
لقد انتهى هذا الزمن ، وجاء زمن الوعظ الخاوى من الأدلة ، والحجج ، وتوجه الخطاب نحو الطبقة الوسطى علميا ، أو التى لم يكتب لها الجلوس فى مقاعد الدراسة ، ومن هنا رأينا انتشار فكرة الإلحاد فى وسط الشباب ، وقد تم رصد الآلاف من الشباب فى الخليج وقعوا فى فخ الإلحاد ، وليس لنا فى القرن الأفريقي من يتتبع فى مسارات الشباب الفكرية ، ولكنى ألاحظ فى متابعتى لما يكتب فى أجهزة التواصل الإجتماعي شبابا متأثرين بالفكر الإلحادي ، ولهم شبهاتهم الكثيرة .
لاحظت فى فكر الدكتور محمد العوضي ، المفكر والداعية الكويتي تألقا فى هذا الموضوع ، ويواجه الفكر الإلحادي بفكر إسلامي ، وأنا افرق بين الإلحاد ، والفكر الإلحادي ، فالثانية أخطر ، ذلك لأنه يمهد للإلحاد ، فلا إلحاد بدون أرضية تبشر به ، ولهذا يحاول الأستاذ محمد العوضي مواجهة الفكر ، وليس مواجهة العرض .
لدينا عشرات الآلاف من الشباب المتعلم فى جامعات الغرب ، وهناك تثار الكثير من الشبهات ، ولا يقبل الشباب المتعلم من الداعية إلا الكلام العلمي ، والمنطلق من الحجة والبرهان ، كما أن الدراسات الجامعية ، انتشرت بشكل جيد فى منطقتنا ، وهناك الكثير من الخريجين الذين عادوا إلى بلادهم بعد أن درسوا العلوم فى الخارج ، ولهذا فلا بد من تغيير جاد فى الخطاب الديني حتى يكون مقبولا عند المخاطب .
لا تنجح الفكرة ذاتيا ، فلا بد من عرضها على الناس ، ولا بد للداعية من سلاح ، وأهم الأسلحة فى هذا الزمن هو العلم بمفهومه الواسع ، فلا بد من العلوم الشرعية ، والعلوم الكونية ، وكذلك العلوم الإنسانية .
فى رأيى ، يحتاج الخطاب إلى تجديد فى الوسائل والمحتوى ، وإلى تفاعل مع قضايا الزمن والمكان بروح رياضية ، وبمرجعية إسلامية ، كما أن الخطاب لا يستغنى عن فهم الواقع وتعقيداته ، فليس بداعية ناجح من لا يعرف نظرية داروين فى التطور ، وما المقبول منها ، وما المردود منها ؟ وليس بداعية من لم يدرس نظرية الشك واليقين عند ديكارت ، والغزالي ، وما المقبول منها ، وما المردود منها ؟ وليس بداعية من لم يقرأ بعمق فكرة ( النسوانية ) فى العالم ؟ ما ذَا نقبل منها ، وماذا نرفض منها ؟
لدينا مدافعات فى المجال الفكري ، فهناك من يسقط ، ومن يهرب ، ومن يختفى ، ولكن كل ذلك واضح فى زمن العولمة ، فلا مجال لسياسة النعامة فى مواجهة الفكر ، وليس من الحكمة ان نوزع التكفير على الناس بلا حجة ، وخاصة حين نخاف من المواجهة الفكرية .
هل نحن أمام زمن جديد ؟ ينتهى زمن مع خطابه ورموزه ، ويبزغ زمن جديد مع خطابه ورموزه ، ربما ، ولكن الحقيقة المرة ، أن أغلب الوعاظ فى زماننا هذا فشلوا فى إقناع الجيل الجديد بلغة العلم ، لغة القرآن ( نبؤونى بعلم ، إن كُنتُم صادقين ) .
بقلم/ الشيخ عبد الرحمن بشير
بين عنوان المقالة ومضمونها فارق كبير، إذ أن الكاتب لم يذكر أن الوعاظ انتهوا، ولو قالها لخالف الواقع، ونحن نعلم كيف أنه اليوم وبعد سقوط دولة زياد بري كثر الوعاظ ودورهم في البلد وخارجه، وانتهى التفكير وتعلم الكتب وصار الناس يعولون على وعاظهم فقط ويتكلون عليهم.
انا أقف مع الكاتب في أن دور الوعاظ في الدفاع عن الإسلام قليل جدا مقارنة مع ما نحتاج إليه من استعمال أداة أخرى أكثر نجاعة إلا وهي التعقل وخلق بيئة تحفز على التفكير العميق بين الشباب بدل عقلية الاستماع والصغار.
بل لا نجازف الحقيقة والواقع إن نحن قلنا: أننا نعيش اليوم عصر ” الوعاظ والواعظين” سواء فرحنا بذلك أم حزنا.
وصار الواعظون – خاصة في المجتمعات المسلمة التي تكثر فيها الأمية كمجتمعنا- يلعبون فيه دورا محوريا أساسيا، ويتكلمون في كل شيء تقريبا من الفقهيات والقصص والتاريخ والاقتصاد والسياسة ويتصور مستمعوهم من جموع المواطنين انهم لا يخطئون في كل هذا وكأنهم معصومون! وهذا أمر خطير كما لا يخفى.
فبدل أن نتحدث عن وهم ( نهاية زمن الوعاظ ) يمكن لنا الحديث عن كيفية تخليص المجتمع الصومالي من سيطرة كهنة الوعاظ ولهم وخلق فكرة التفكير والتعقل