يا لك من قنبــرة بمعمـــر *خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري * قد رحل الصياد عنك فابشري
ورُفع الفخ فماذا تحذري *لا بد من صيدك يوما فاصبري
هذه أبيات لطرفة بن العبد صاحب المعلقة، قيلت على لسان ابن عباس رضي الله عنه مخاطبا لابن زبير يوم خلت له الحجاز من منافسة بنى هاشم، ذلك بعدما أصرّ الحسين بالخروج إلى الكوفة وتجاهل تحليل عمه ابن العباس الذي كان يرى مصرع الحسين رأي العين. وبغضّ النظر عن صحة الرواية وهي طويلة وثابتة في كتب التاريخ والأيام إلا أنها تصوّر واقعا طبيعيا أشبه بالحقيقة،وهو نفسه ذلك الواقع الذي يصوّره التاريخ عامة عن تلك الأيام، والرواية صورة واضحة لتلك اللحظات التى يبتسم فيها القدر للقوي الحريص الذكي، ويتفردّ فيها بمشروعه ،ويتفرّق فيها الشركاء، ويذهب فيها وهْم الشراكة المزعوم بشكل أو بآخر.
دائما ما ننكر عندما نُفاجَأ بتفرّد شخص أو شُلّة بما كنا نراه مشتركا، وغالبا ما تحدث المشاكل بسبب ذلك ونشهد صرعات قد تنتهى بخسارة الجميع، أو الحسم لصالح طرف معين، أو بصلح ويأخذ كل طرف جزأ من الكعكعة كبُر أو صغر.
دائما ما نتحدّث عن الشراكة وقيم الشورى والتعاون وروح الفريق والجماعية والمساواة والعدل، وهذا ما يجعلنا نتأثر سلبيا عندما نواجه مواقفَ أنانيّة واستحواذ وتفرّد.
أولا، الأصل هو الأنانية، وشهوة التفرّد مجبولة في الإنسان، وتساهم في تشكيل سلوك الفرد مثل باقي الشهوات، وهذا أول ما يدفع الإنسان للتفرّد.
ثانيا، إن الشراكة في أصلها حكاية وهمية، فلاوجود لها أصلا، ذلك أنه في كل أمر يشترك فيه مجموعة من البشر فهناك محرّك لها ومركز قوة وتأثير فيها، يبتكر الفكرة، ويُقنع بها الناس، ويضع اللّبنات الأولى للأمر المشترك فيه، ويحتفظ بأسرار الوجود وخيوط الشبكة الأولية، ومهما كانت هناك صور للتشارك في بداية أمر ما، فإن هناك من يسبق على الآخرين بشكل أو بآخر، وهولاء السابقون يؤمنون دائما بالملكيّة الفردية وإن تظاهروا بقبول الشراكة، فالشراكة ليست موجودة في بداية كل أمر حقيقة.
ثالثا، إن مسيرة الشراكة تفرز بين الشركاء إلى أشكال مختلفة؛ تفرزهم إلى قيادات ورعيّة، حريصين ومهملين، طامعين ومتسامحين، أقوياء وضعفاء، أذكياء وأغبياء، مغوارين و مترددين، أمناء وخائنين، أوفياء وماكرين، متهوّرين ومسالمين، أنانيين وجماعيين، ثابتين ومتحوّلين، وهكذا. فهذه الفروق الفردية التى لا تظهر إلا بالتفاعل تقود إلى تباين الشركاء وتنافرهم فيما بعد، فتتلاشى الشراكة الوهمية التى لم تكن موجودة في الأصل شيئا فشيئا مع مرور الزمن.
عندما يظهر لأحد الشركاء أنه هو القائد وأن البقيّة رعية، يقتنع نفسيّا بأن مكانه اللائق به عدلا هو صدر المجلس، فتنهارالشراكة؛ وعندما يتأكد فرد من أنه هو الأوسع نفوذا والأحسن جاها والأشدّ تأثيرا والأكثر أتباعا وأعوانا، فإنه يحدّث نفسه بأنه هو الشركة وآن الآخرين أجزاء منه، ويقتنع بأن ذلك هو عين العدل والواقع الذي يجب قبوله؛ وعندما يجد عضو في الشراكة أنه هو الأحرص على الأمر، ويقدّم لإنجاح الأمر صنوف التضحيات أكثرمن غيره بكثير، بل يواجه بعض الأحيان ما يظهر له بأنه خذلان من الشركاء وتقصير منهم في الصالح العام، فإن قناعةً راسخة تتكون لديه بأنه هو صاحب الأمر ومالكه؛ ولذلك عندما يحارب الآخرين الشركاء فإنه يحاربهم ويُبعدهم ويقضى عليهم من منطلق العدل والحق والصواب. وهنا يتمسّك الشركاء الضعفاء الرعية المهملين دائما بحق الرفقة، ومبدأ الشراكة، وقيم العدل والمساواة، ويشتكون بالاستناد إلى هذا الكلام، الذي هو مجرد كلام في عالم الإنسان، حيث إن الشراكة لا وجود لها في قاموس الوجود، فهي بين أقوياء لا تكون، فالسيوف لا تجتمع في غمد واحد؛ وهي بين قوي وضعيف لا تلبث، فلا حظيرة تجمع بين الصقور والحمائم.
عندما يكتشف طرف في الشراكة بأن الأطراف الآخرى ضعفاء مهملون وغير مؤثرين، فإنه إن كان طمّاعا أنانيا يقتنع بأن فرصة كبيرة أمامه، فلا يلبث أن يقتلع الآخرين بعد سقوطهم من عينه واكتشاف عورتهم أمامه، وإن كان حريصا على الأمر ورحيما بهم، فإنه يتركهم في الطريق ويتفّرد بالأمر ويستبدّ، و يستعين بآخرين يثق فيهم، وفي كلا الحالتين يرجع السبب الأول لتهدّم الشراكة إلى وهميتها، ثم إلى الطرف الضعيف المهمل المغلوب على أمره، إما لأنه لم يقف موقف الندّ المساهم فعلا كما في الصورة الأولى، أو فاته القطار كما في الثانية.
إننا دائما نصبّ جام غضبنا على المتفرّد المستبدّ، الذي لو ناقشناه لوقف موقف المظلوم المنقذ البطل الذي لم يُبعد أحدا ولكن الآخرين تخلّفوا عنه في نظره، ولا ننظر تحت؛ للوقوف على مفرادت تلك العوامل التى تضافرت في خلق هذا الواقع الطبيعي الذي نسّميه اغتصابا وهو في الحقيقة مجرد لحظة طبيعية متوافقة مع الأصل الطبيعي، وننسى أننا نحن الواهمين المثاليين المؤمنين بوهم الشراكة.
علينا أن نتّهم المشتكى قبل المتفرّد في مثل تلك الحالات، ونسأله ما جعل صاحبك المتفرّد يستغني عنك وكان يحتاج إليك أول الأمر؟ ما الذي جعلك الضحية لا المجرم؟ إين كنت لما كان صاحبك يأخذ ويذهب بكل شيء؟ ..فالظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد * ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ.
إن الشراكة لا تتفق والطبيعة البشرية، وليست من مفردات الحياة الطبيعية، ولا تنطبق مع كينونة الإنسان وماهيته، وعليه ينبغى أن نقتنع بواقع الحياة كما هو، حيث التفرّد سيد الموقف؛ فإذا وجدتَ نفسك صقرا قائدا قويا ذكيا مؤثرا حريصا فاطلب التفرّد والزعامة والملك، ولا تلتفت لأوهام الشراكة وخيال الحالمين، ولا تقنع بما هو دون النجوم، واكتب لنفسك تاريخ مثل ذلك البطل، صقر قريش الداخل، الذي قال فيه منافسه المنصور: “الحمد الله الذي جعل بيني وبينه بحرا عظيما”، وإن وجدتَ نفسك ضعيفا هشّا لا يؤثر، فاحجز موقعك في الخلف وبين الحمائم، واقتنع بأن تكون رعية، ولا تحلم بالشراكة فإنها وهم لا وجود له؛ وإلا فلن تبقيَ ظهرا ولن تقطع أرضا، فما نسمّيه شراكة ما هي إلا لحظات استعداد للتفرّد وهمية في ذاتها، تجمع بين أقوياء، ولا تلبث أن تنتهي بعد أن يأخذ كل طرف مكانه ويعرف حجمه. فالناس ليست سواسية كأسنان المشط إلا في عالم المثل الذي كان ينبغي أن يكون، أما الحقيقة فهي “وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ “فاصنع درجتك ولا تحاول أن تتجاوزها.
لاحظوا إلى ما انتهت إليه الديموقراطية، ذلك الوهم الذي جسّده الفلاسفة الحالمون في عالم الخيال، وانتهى في تنزيله الأول إلى الأرستقراطية (سلطة الفضلاء النبلاء الأشراف)، حتى قال شعب روما يوما كانت حاضرتهم تسقط وحضارتهم تهوى على يد البرابرة الجرمان (456م) بعد أن طلب النبلاء من الشعب الدفاع عن رمزيّة روما مقابل امتيازات ستكون لهم فيما بعد؛قال الشعب قولته المشهورة التى وأدت وهم الديموقراطية في مهده، فنادوا بأعلى صوتهم: “روما وطن للأشراف وعلى الأشراف وحدهم أن يدافعوا عنها”.
بل تعال عن ذلك الزمن السحيق، واسأل نفسك، إلى اين انتهت الديموقراطية الحديثة في أقوى دولة ديموقراطية في العالم؟ ألم تنته إلى النظام الرئاسي والفيتو؟ ماذا يعنى النظام الرئاسي غير التفرّد؟ ما الذي يمكن أن تسمّيه ما يحدث في الانتخابات من مكر وخديعة ورشاوي وتهديدات وتصفيات وتضليل للرأي العام؟ قالوا لنا ديموقراطية! فقلناها ديمواقراطية، وهي في الحقيقة استبداد وتفرّد وأخذ للسلطة بكف وخمسة أصابع.
بل في أحسن الأحوال، ألم تخلص الديموقراطية الحديثة إلى أرستقراطية كما بدأت؟ذلك عندما نشاهد مجموعة نبلاء (نوّاب) يتفرّدون بالسلطة التى كانت ملكا للشعب، مع أنهم نواب أنفسهم فقط. أو بم يمكن أن تصف عندما تشاهد تلك اللحظة التى يتفرّد فيها حزب واحد برسم مستقبل شعب بكامله؟ قالوا إنها ديموقراطية، وهي في الحقيقة تفرّد باسم الشراكة.
لا تبتعد كثيرا، هل فكّرت قليلا في فلسفة المسلمين في الحكم، التى توجب الشورى وترفعها كقيمة إسلامية حضارية، ثم تؤكد في نفس الوقت على نموذج الخلافة الشمولي القرشي حصرا، وإجازتها لحكم المتغلّب المنتصر. وهل تذوّقت قليلا عبارة “وليّ أمر المسلمين”! القرشي شرطا! وهل حاولت ولو مرّة أن تجمع بين: “وأمرهم شورى بينهم” الآية، و”الأئمة من قريش” الحديث، و”ولي أمر المسلمين” الحقيقة الواقع؟ أنه صراع المُثل والواقع الدائم لا غير.
وهل تساءلت أيامك هذه: لماذا يفضّل أوردغان الإسلامي اليوم النظام الرئاسي على البرلماني؟ ولماذا ترك شركاءه في قارعة الطريق(أربكان، غولن، غل، أوغلو،…)، وكل منهم يتمثّل بأبيات طرفة سالفة الذكر. ماذا كان شعورك عندما كُنت تستمع ردّ السلطان على نصيحة رفيقه في الدرب ولصيقه في الكفاح رئيس الجمهورية السابق”غل” بمقولته المزلزلة والفاصلة في رمضان عام 2015م: ” لقد تركنا وراءنا الخونة والجبناء والمترددين والمتمسكين بمصالحهم الشخصية في عالم السياسة، وأكملنا طريقنا السياسي دون تغيير، أما هم فباتوا اليوم خارج السياسة”. بل كيف كان شعورك عندما كان يترجّل طواعية مهندس سياسة تركيا الخارجية، وفيلسوف الحزب وقائده، رئيس الوزراء أحمد داؤود أغلو في العام التالي لطرد غل معزيا نفسه بقوله: “الرفيق قبل الطريق (الشراكة)، كنت أعمل مع رفقائي، وإذا تخلوا عني فإنني لا أستطيع أن أسير في هذا المشوار”ويلوّح له أردوغان بيده رابط الجأش قائلا: “وداعا”. ولولا القيل والقال لأوردتُ تعليق العباس رضي الله عنه على خبر مقتل أبي جهل في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمثال الأوضح يوم كشف معاوية رضي الله عنه سيناريو الحرب التى ستدور كاملا لعمّار بن ياسر رضي الله عنه ونصح له ولأمثاله بالاعتزال والتوقّف عن معارضة أمر لا محالة يتمّ.
إنها لحظة الحقيقة، والساعة البيولوجية لانتهاء فلم الشراكة، إنها من الثواني النادرة التى تتجلى فيها الحقيقة كما خُلقت، إنها اللحظة التى ينكشف الوهم ويتسّلم الأقوياء زمام مبادراتهم الشخصية التى قيلت يوما إنها كانت شراكة توهّما.
إن الدرس الوحيد والأهم في هذا الكلام الكثير هو ألا يكون حكمنا على ما نواجهه من مواقف التفرّد والاستحواذ من وحي القيم والأحلام والأوهام المثالية التى نركن إليها عاطفيا، وأن نحكم من خلال الواقع كما هو أو كان، لا كما كان ينبغي أن يكون.
رحم الله امرئ عرف قدر نفسه
بقلم/ عبد الله عبد الرحمن محمود
تعليقات الفيسبوك