يتناول التقرير موضوع الإسلاميين الصوماليين – بمختلف مدارسهم و علاقتهم بالدولة والنخبة الحاكمة، منذ نشأة الدولة الصوماليية عام 1960م حتى الآن، وتنبع أهمية الموضوع من قوة دور الإسلاميين في المجتمع الصومالي منذ اعتناق الصوماليين الإسلام في القرون الأولى للدعوة الاسلامية في المنطقة وحتى الآن، وهو دور قيادي وأصيل وسوف يستمر هذا الدور  ما استمر الإسلام  مكوناً أصيلا لقيم المجتمع، ليس في الصومال فقط وإنما في العالم الاسلامي.

 وإذ يتعرض التقرير  لموضوع الإسلاميين فإنه لا يهدف إلى تناول تاريخ الحركات الإسلامية  في الصومال بمختلف فصائلها،  وإنما يتهم ويركز فقط على علاقتهم بالدولة والحكم، وتعامل الدولة الصومالية بمختلف مراحل تاريخها معهم، وردود أفعال الإسلاميين، وهو تقرير وصفي يعرض السمات العامة والخطوط العريضة لتطور العلاقة بين الطرفين سلبا وإيجابا، ولا يخوض في التفاصيل.

 وسوف يتم تقسم الموضوع إلى خمسة محاور رئيسية هي: الاسلاميون والحكم المدني في الصومال(1960-1969م)  والإسلاميون والحكم العسكري (1969-1991م) والإسلاميون والحرب الأهلية حتى 2006م، والإسلاميون والحكم حتى إنهاء المرحلة الانتقالية عام 2012م، وأخيراً المستقبل السياسي للاسلاميين الصوماليين. ونظرا لطول التقرير ومساحة النشر المخصصة له فسوف يتم تجزئته إلى ثلاث حلقات ستعرض الحلقة الأولى فقط، على أمل أن يتم – بإذن الله تعالى-  عرض الحلقتين الثانية والثالثة لاحقا .

أولا-  الإسلاميون والحكم في الصومال في العهد المدني (1960م – 1969م)

لم يكن الفقهاء وعلماء الشريعة الإسلامية بمنأى عن الحياة العامة في الصومال وفي العالم الإسلامي بصورة عامة منذ أن اعتنق الصوماليون الإسلام، وأصبحت الشريعة الإسلامية المرجعية الرئيسية في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية  حتى مرحلة الاستعمار، مثله في ذلك مثل بقية العالم الإسلامي فيما قبل مرحلة الاستعمار. كما أصبح الفقهاء أحد مكونات القيادة في المجتمع في حالتي السلم والحرب، وتصدروا في مواجهة الخطر الخارجي الذي واجهه الصوماليين في المراحل التاريخية المختلفة، فقاموا بالدفاع عن الأرض والعرض والعقيدة، لذا يمثل كل من الإمام أحمد بن إبراهيم (جري) في  القرن السادس عشر الميلادي و السيد محمد عبد الله حسن في القرن العشرين من أبرز القادة العظام للصوماليين  في التاريخ الحديث والمعاصر.

ولدت الدولة الصومالية الحديثة في الأول من يوليو عام 1960م من اتحاد بين إقليمين من الأقاليم الصومالية الخمسة التي يتكون منها الصومال الكبير، وهما الصومال البريطاني والصومال الإيطالي، وشكلا معا ما يعرف الآن بجمهورية الصومال. وكان ذلك الإستقلال مشوهاً وناقصاً، نظراً لوقوع الأقاليم الصومالية الثلاثة الأخرى تحت احتلال الدول الاستعمارية، ولكنه كان ذلك يمثل لكل صومالي خطوة متقدمة للأمام للوصول إلى آمال تحقيق الصومال الكبير، مما فرض على الدولة الصومالية الناشئة في عمر مبكر من تاريخها الدخول في صراع سياسي وعسكري مع تلك الدول استجابة لرغبة الصوماليين في تحقيق الوحدة والاستقلال.

طبيعة الحكم المدني:

وكانت مرحلة الوصاية (1950 – 1960) التي وضعت فيها الصومال الإيطالي – والتي سبقت الاستقلال – مرحلة تمهيدية وانتقالية للحكم بعد الاستقلال، وعاشت النخبة الحاكمة في الصومال مع الإسلاميين على قدر كبير من الوئام والانسجام بين الطرفين نتيجة للكفاح المشترك والهدف الواحد المتمثل في الإستقلال والوحدة الذي سعى إليه الصوماليون جميعاً.

وكانت كبر ى الحركات والأحزاب الوطنية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية التي نادت بالحرية والوحدة للشعب الصومالي تحت المستعمرات المختلفة – ترفع الشعارات الإسلامية لمجابهة الاستعمار، فقامت بإضافة مواثيقها وأهدافها ببعض البنود التي تؤكد الهوية الثقافية الإسلامية للشعب الصومالي، وسيادة الشريعة الإسلامية، والمطالبة بأن تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة الصومالية المرتقبة(1).

وانتهجت الحكومة الصومالية الوليدة بعد الإستقلال نظام التعددية السياسية والحكم النيابي، وأجريت تلك الفترة التي لم تتجاوز عشر سنوات (1960-1969م) ثلاث دورات انتخابية، ونجح السياسيون الصوماليون بتداول السلطة سلميا في وقت كانت موجات الصراعات على الحكم والانقلابات العسكرية تجتاح أفريقيا والعالم الثالث(2)، وقد وصف الدكتور على المزروعي الصومال في تلك الفترة بأنها كانت “واحدة من أكثر الدول ديمقراطية ليس في أفريقيا فحسب بل في أي مكان في العالم”.(3)

وكانت طبيعة الحياة السياسية في البلاد في تلك الفترة التي تقوم على التحالف والائتلاف بين مكونات الحكومة، والبحث عن الحصول على الأغلبية التي يحتاجها كل طرف لتمرير القرارات في البرلمان، وحاجة السياسيين الحصول إلى أصوات في الانتخابات في المستويات المختلفة – كانت كل تلك العوامل تفرض السياسيين على عدم استثارة ومعاداة أي طرف له نفوذ سياسي في البلاد ومنهم الإسلاميون، أو إثارة القضايا الوطنية الحساسة ومن  بينها القضايا التي لها صلة بالإسلام التي يمكن أن تستفز بالرأي العام الصومالي آنذاك.

وكان وجود قضية قومية واضحة (تتمثل في فكرة الصومال الكبير التي تقوم على تحرير المناطق الصومالية الخمسة في القرن الأفريقي وإعادة توحيدها لتأسيس دولة الصومال الكبير ، والتي تبلورت بصورة واضحة خلال الحرب العالمية الثانية) تنادي به القيادة السياسية الصومالية وتحظى بالتفاف شعبي قوي – من أهم العوامل التي كانت تزيد من التلاحم بين  مختلف المكونات السياسية الصومالية في تلك الفترة .

لهذه الأسباب وغيرها تميزت الصومال في تلك الفترة بالتسامح السياسي نتيجة للمنافسة السلمية بين الأحزاب، وكان لجوء الحكومة الصومالية خلال عقد كامل من الزمن إلى استخدام العنف ضد المعارضين لها قليلاً ومحدوداً، وينسب إلى أول رئيس صومالي بعد الاستقلال آدم عبد الله عثمان في خطبة له في البرلمان خلال جلسة تسليم الرئاسة إلى خلفه عبد الرشيد علي شرماركي تأكيده على أنه يسلم لخلفه زمام حكومة ليس لديها سجين سياسي واحد.

طبيعة دور الإسلاميين في تلك الفترة:

لم يكن الإسلاميون الصوماليون في تلك المرحلة قد تبلورت لديهم فكرة المشاركة السياسية القوية أو تشكيل أحزاب سياسية مستقلة، بل كانت الأحزاب السياسية والحركات الوطنية الصومالية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ، ومن أهمها حزب وحدة الشباب الصومالي – حزب الأغلبية في فترة الحكم المدني – تضم في ضفوفها قيادات ذات توجهات إسلامية، وكانت ترفع الشعارات الإسلامية على اعتبار الإسلام عامل توحيد للصوماليين، ولمواجهة التحدي الخارجي المتمثل في الاستعمار، والتحدي الداخلي المتمثل في القبلية المقسمة للشعب الصومالي، لذا فقد استمر الانسجام والعمل بين العناصر الإسلامية والسياسيين الصوماليين الآخرين في مرحلة الحكم الوطني قبل الاستقلال وبعده.

وبعيدا عن القضايا السياسية المتفق عليها بين الصوماليين جميعا فقد اشتد الصراع بين الطرفين في الهوية والثقافة، فقد دار الصراع بين أصحاب الثقافتين الوافدتين الإيطالية والبريطانية، وبينهما من جهة وبين أصحاب الثقافة العربية الإسلامية من جهة أخرى. وكان اختيار اللغة الرسمية للدولة الصومالية المستقلة من أعقد القضايا التي دار حولها الصراع قبل وبعد الاستقلال، إذ ظهرت في المرحلة الأخيرة من الحقبة الإستعمارية أربعة اتجاهات في هذه المسألة تتمثل في الإنجليزية والإيطالية والعربية والصومالية. ونظرا لكون اللغة الصومالية لغة تخاطب وتفاهم فقط وليست لغة مكتوبة فقد كانت اتجاه الصوملة منقسم على نفسه حول الحروف التي ستكتب بالصومالية، بالعربية أم باللاتينية؟ أم يتم اختراع حروف جديدة لكتابتها؟

وركز الإٍسلاميون في تلك المرحلة مواجهة الهيئات التبشيرية التي كانت تمارس أنشطتها المختلفة من فتح المدارس وإدارة ملاجئ الأيتام، وكان المبشرون يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية والضمانات من الحكومة الصومالية. وإلى جانب الدور الذي قام به الإسلاميون في مواجهة التبشير والغزو الثقافي في مجال الثقافة والتعليم قاموا أيضا بالدور الدعوي في المساجد .

وساهمت المدارس العربية الإسلامية التي أقامتها مصر والبعثات التعليمية إلى الصومال – منذ الخمسينات من القرن العشرين – إلى حد كبير في المحافظة على هوية الصومال الإسلامية العربية، كما لعب المندوب المصري العضو في المجلس الاستشاري المشرف على الإدارة الإيطالية الوصية على الصومال الإيطالي تمهيدا للإٍستقلال – دورا كبير اً في الدفاع عن المصالح الصومالية في الاستقلال والوحدة واتخاذ اللغة العربية لغة رسمية لدولته المرتقبة، وتوطيد علاقات الصومال مع أشقائه العرب والمسلمين، ودفع المسئول المصري كمال الدين صلاح حياته ثمنا لهذه الجهود(4).

ومما يجدر ذكره في فترة الحكم المدني عودة بعض الشباب الذين أنهوا تعليمهم في البلاد العربية واحتكوا بالعلماء والمفكرين وقادة الحركات والأحزاب الإسلامية، وحملوا معهم أفكار الصحوة الاسلامية المعاصرة التي نشأت في مصر وبعض البلاد العربية، فقاموا بافتتاح نوادي وجمعيات ومراكز ثقافية لنشر الفكرة الإسلامية، منها حركة النهضة وجمعيتي حماة الدين وإحياء السنة، ولم يكن لهذه الجمعيات الطابع التنظيمي الحركي المعروف لذى الحركات الإسلامية المعاصرة، وبدأت أيضا بعض الكتب والنشرات والمجلات الإٍسلامية المعاصرة تدخل في الساحة الصومالية، في تلك الفترة.

العلاقة بين الطرفين:

اتسمت العلاقة بين الطرفين بالوئام، ولم يتبادلا العنف السياسي، ولم تكن سياسة الحكومات المدنية الصومالية المتعاقبة عموما تجاه الإسلاميين إقصائية، ولم تظهر فيها استهداف أو سوء نية تجاههم، وكانت أجواء الحرية التي يتمتع بها المواطنون في حياتهم العامة أهم السمات الإيجابية في تلك الفترة، ونتيجة لذلك شارك العلماء والدعاة في العمل السياسي في البلاد فأصبحوا وزراء ووكلاء وزراء ومدراء وقضاة، وخصوصا في وزارة العدل والشئون الدينية ووزارة التربية والتعليم في العهد المدني والسنوات الأولى من الحكم العسكري.

وكانت التوجه العام للشعب الصومالي في تلك الفترة نحو تحقيق الآمال القومية في توحيد الصومال الكبير، والتحدي الإقليمي أمام الصوماليين المتمثل في إثيوبيا وفرنسا، واهتمام السياسيين الصوماليين بمختلف أطيافهم في المحافظة على المكتسبات القومية – كانت كل تلك العوامل تساعد على التعايش السلمي بين المكون السياسي الصومالي.

ثانيا- الإسلاميون والحكم العسكري (1969م – 1991م)

في أكتوبر 1969 جرى في الصومال انقلاب عسكري بقيادة اللواء محمد سياد بري، وأعلن الإنقلابيون إنهاء الحكم النيابي وإلغاء الدستور والأحزاب السياسية وانتهاج النظام الإشتراكي وقاموا باعتقال الزعماء السياسيين الذين حكموا البلاد في العهد المدني، وفرضو أحكاما عسكرية على البلاد.

سياسة الحكومة العسكرية تجاه الإسلاميين:

مثل الإسلاميون الطرف الأكثر تضررا من إعلان الأيدلوجية الشيوعية والنظام الإشتراكي لدى الحكومة الجديدة ، ومثلت معظم السياسات التي اتخذتها الحكومة العسكرية بعد ذلك مناقضة للمبادئ التي طالما حافظها الإسلاميون ودافعوا عنها في الحقبة السابقة، لذا فقد ساد ترقب لدى الطرفين في المرحلة الأولى من عمر الحكومة العسكرية، ولكن بعد أن استتب الأمر لدى العسكر بدأوا بتنفيذ سياساتهم في البلاد.

فكان أهم الخطوات التي قاموا بها في مجال الثقافة عام 1972 كتابة اللغة الصومالية بالحروف الللاتينية ثم اعتبارها للغة الرسمية للبلاد ولغة الحكومة والتعليم، وحسم العسكريون القضية الشائكة التي دار عليها الصراع فترة طويلة في حقبتي الاستعمار والحكومة المدنية بقرار عسكري، واعتبر البعض تلك الخطوة بمثابة توجيه ضربة قوية للثقافة العربية الإسلامية في الصومال، وانحياز واضح للثقافة اللاتينية التي كانت تهيمن على النخبة التي كانت تقود البلاد، وفي هذا الصدد رفضت الحكومة العسكرية الصومالية في تلك الفترة مشروع جامعة عربية إسلامية، تقدمت به الجامعة العربية لإنشاء جامعة في الصومال عام 1971م، كما أوقف النظام العسكري البعثات الدراسية إلى بعض الدول العربية، واقتصرت فقط على البعثات الحكومية التي كانت تتوجه إلى الإتحاد السوفييتي والدول الشيوعية.

ومن المفارقات العجيبة في هذا الموضوع انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربية في فبراير 1974 وذلك بعد القضاء على اللغة العربية والحرف العربي باختيار الأبجدية اللاتينية واستبعاد الحرف العربي، واعتبر ذلك تنصلاً عن العروبة والإسلام معا، مما وضع محل شك في الأهداف والنوايا الحقيقية لقادة الصومال تجاه مسألة الانضمام إلى الجامعة العربية الذي جرى بعد تلك الخطوة.

قام النظام العسكري أيضا بتأميم المدارس والمؤسسات التعليمية القائمة في البلاد التي كانت تستخدم عدة لغات، وجعلت النظام التعليمي مختلط الجنسين سواء في المدارس أو الجامعات وأعدت زياً مدرسياً موحداً للجنسين، ومنعت الحجاب في المدراس، وفرض على البنات كشف الرأس والشعر، وكان ذلك انقلابا واضحاً على عقيدة المجتمع الصومالي وعاداته وتقاليده الإٍسلامية العريقة. وحاول النظام العسكري في تلك الفترة إعادة تشكيل حياة الشعب الصومالي من جديد وتغيير الأسس الاجتماعية التي يقوم عليها جذريا ومن بينها التقاليد الإسلامية، لتتلاءم مع النهج الشيوعي والحكم العسكري المطلق الذي فرضه العسكريون في البلاد.

وصلت ضربات النظام للإسلاميين أوجها بإصدار قانون المساواة المطلقة بين الجنسين حتى في الميراث في 11 يناير 1975(5). واعتبر العلماء تلك الخطوة التي قام بها النظام بأنها خطوة جريئة تمس ثوابت الدين الإسلامي، لم يجرأ بها الاستعمار الذي حكم الصومال قرابة قرن من الزمان، ولم يجرأ كذلك قادة الدول العربية والإسلامية التي انتهجت نظم الشيوعية أو العلمانية في بلادها.

رد فعل الإسلاميين تجاه سياسات النظام العسكري:

مثلت تلك الخطوة استفزازا شديدا وجاء رد الفعل من جانب العلماء سريعا، ففي يوم الجمعة التالي الموافق 17 يناير 1975 تناول بعض العلماء في خطب الجمعة في مقديشو الموضوع، وأوضحوا للمصلين موقف الشريعة الإسلامية الصريح من القانون الجديد، فقامت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة في صفوف العلماء والدعاة ،وأجرت محاكمات عسكرية صورية لبعضهم، وخلال أسبوع أصدرت حكماً على عشرة منهم بالإعدام رمياً بالرصاص، و23 آخرين بالسجن لمدد تتراوح بين 20 – 30 سنة. ونفذ حكم الإعدام على العشرة صبيحة يوم الخميس 23 يناير 1975 في ميدان عام قرب معهد الشرطة على شاطئ المحيط الهندي، وأذيع الخبر من إذاعة مقديشو الحكومية.

وكان لتلك الحادثة تأثيراتها الداخلية والخارجية على الحكومة الصومالية، فقد أثارت تلك الحادثة غضب الرأي العام العربي والإسلامي، فاستنكرت الجماهير العربية والإسلامية تلك الحادثة، وانهالت البرقيات على الحكومة الصومالية، وتناولتها الصحف والمجالات في العالم العربي والإٍسلامي، وتأثرت كذلك علاقات النظام مع العالم الإسلامي على المستوى الشعبي على الأقل، وشعر النظام الصومالي بالعزلة ومدى الغفلة التي يعيشها في تلك الفترة.

وواصل النظام بحملات تشويه الإسلاميين ونشر الدعايات الإعلامية في الداخل والخارج لتبرير موقفه، وجعل تلك القضية قضية سياسية لا علاقة لها بالدين، واتهم العلماء بالرجعية والعمالة للإمبريالية والتستر باسم الدين، وظهرت ألقاب سياسية للعلماء مثل (وداد حمى) ومعناها بالعربية عالم سوء التي كان يطلقها قادة النظام على العلماء.

إزاء حملات القمع والتهديد من جانب النظام للإسلاميين والسياسيين وعامة الشعب، فهرب الكثير منهم إلى الخارج، واختار الذين بقوا في البلاد العمل سرياً أو السكوت المطلق، وينسب إلى أحد الحكماء الصوماليين الذي اشتهر في تلك الفترة بصناعة النكت والفكاهات عن النظام الصومالي بمقولة يصور فيها الخيارات الثلاثة التي باتت أمام كل صومالي في تلك المرحلة، وهي: إما أن تؤيد النظام، وإما أن تسكت، وإما أن تذهب إلى أفجوي، وأفجوي هذه مدينة قريبة إلى مقديشو كان فيها أحد أهم سجون النظام.

وانتشرت في تلك الأجواء في الصومال كتب الداعية الإٍسلامي سيد قطب التي سربت إلى الصومال وقصص تعذيب الإخوان في سجون مصر الناصرية، وساعدت تلك الأجواء في ظهور الفكر التكفيري الذي كفر النظام بموقفه من القرآن وأحكام الشريعة الإسلامية، وكفر المجتمع الصومالي الذي لم يحرك ساكنا (حسب اعتقادهم) وصفق للنظام ، وانتشرت فكرة التكفير  بين شباب الصحوة الإٍسلامية في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي.

وخلال أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، وبعد هزيمة الصومال في حرب 77/1978م مع إثيوبيا، وانعكاساتها السلبية على الأوضاع الداخلية، سافر الكثير من الصوماليين إلى دول الخليج العربي بغرض العمل أو التعليم أو على طلب الأمان، وكانت الصحوة الإسلامية المعاصرة تنشط في تلك البلاد وكانت أيضا أصداء الجهاد الأفغاني ضد الإتحاد السوفييتي تملأ الساحة العربية والإسلامية فتأثرت بذلك أعداد كبيرة من الشباب الصومالي في الخليج وتأسست معظم الحركات الإسلامية الصومالية المعاصرة في الخليج كحركة الإصلاح (1978) ذات التوجه الإخواني وحركة الإتحاد الإسلامي (1983) السلفية الإتجاه(6). وعاد بعض القيادات غير المعروفة إلى البلاد يحملون تلك الأفكار وبدأوا بالقيام ببعض الأنشطة في أوساط الشباب، وتزامن ذلك مع إطلاق سراح بعض الإسلاميين السجناء وضعف قبضة النظام، وظهور الجبهات المسلحة المعارضة في البلاد منذ أوائل الثثمانينات.

وفي وقت كان النظام الصومالي في أواخر الثمانينات يزداد ضعفا، وتتدهور الأوضاع الأمنية والإقتصادية في البلاد وتنتشر البطالة، وكانت المدن والمحافظات الصومالية تسقط في أيدي الجبهات المعارضة المسلحة واحدة تلو الأخرى – كانت الصحوة تنتشر بين الشباب في المدارس والجامعات، وأصبحت المساجد عامرة بالشباب، وأصبحت الظاهرة الإسلامية السمة البارزة في العاصمة والمدن الكبيرة الأخرى في الفترة الأخيرة من حكم سياد بري.

بقلم/ د. محمد إبراهيم عبدي
أستاذ مساعد في الجامعة الوطنية الصومالية
ورئيس تحرير مجلة جامعة مقديشو

الهوامش


(1) للمزيد راجع: حمدي السيد سالم، الصومال قديماً وحديثاً،الجزء الثاني،جمهورية الصومال- وزارة الاستعلامات، مقديشو 1964م،ص272 وما بعدها.

(2)للمزيد راجع: د. حمدي عبد الرحمن حسن، العسكريون والحكم في أفريقيا، مركز دراسات الميتقبل الأفريقي، سلسلة دراسات أفريقية (1)، ط1، القاهرة 1996م.

(3) د. على مزروعى،  قضايا فكرية، أفريقيا والإسلام والغرب، ترجمة د. صبحى قنصوة وآخرون، مركز دراسات المستقبل آلافريقى،القاهرة 1998، ص97.

(4) للمزيد في معرفة دور كمال الدين صلاح راجع: أحمد بهاء الدين، مؤامرة في أفريقيا، دار احياء الكتب العربية، القاهرة ، 1958م.

(5) قانون الأسرة رقم 23 الصادر في 11/1/1975، في مادته 158.

(6) لمزيد في تاريخ الحركات الإسلامية في الصومال راجع، حسن عبد الله محمود، تاريخ الحركة الإسلامية في الصومال،

 

تعليقات الفيسبوك

تعليقات الموقع

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.