من انهيار الدولة عام 1991 إلى مؤتمر عرتا بجيبوتي عام 2000م (2)

في هذه الحلقة من سلسة دراستنا (الإسلاميون والحكم في الصومال) التي تبدء من انهيار الدولة عام 1991  لم تعد هناك في البلاد دولة كما كان في السابق،  وإنما كان هناك فصائل متناحرة تتمركز كل منها على المنطقة التي تسكنها العشيرة التي ينتمي إليها قادة تلك الفصيلة وأفرادها، لذا فإننا نتناول الدور السياسي للإسلاميين في تلك الفترة من خلال علاقتهم مع الجبهات والعشائر، كما أننا وخلال عرضنا للموضوع نركز على الحديث عن حركتي الإصلاح الإسلامية والاتحاد الإسلامي(الاعتصام حاليا) باعتبارهما أكبر حركتين في الصومال ويمثلان المدرستين الإسلاميتين المعاصرتين، الإخوان المسلمون والسلفية. كذلك نركز على التطوات التي جرت في الوسط والجنوب الصومالي دون الإقليم الشمالي (أرض الصومال ) الذي أعلن الانفصال من طرف واحد منذ مايو 1991، ومن ثم أصبح غير متفاعل مع معظم التطورات السياسية والإجتماعية التي جرت خلال تلك الفترة في باقي مناطق الصومال.

وسوف يكون تناولنا للموضوع من خلال المحاور التالية : الإسلاميون وانهيار الدولة، وأثر الظروف الإقليمية والدولية أوائل التسعينيات على مواقف الإسلاميين السياسية، وعلاقتهم بالجبهات والفصائل المسلحة التي كانت تتناحر للسيطرة على المناطق لفرض أجندتها بالقوة والانتزاع بعد ذلك الاعتراف من القوى الاقليمية والدولية، وأخيرًا موقفهم تجاه محاولات استعادة الدولة الصومالية.

 (1) الإسلاميون وانهيار الدولة الصوماليةعام 1991م

يتحمل قادة وجنرالات الجيش الصومالي سواء كانوا في صف الدولة أو  في المعارضة المسلحة مسؤولية قيام الحرب الأهلية التي دمرت البلاد، وكان من نتائجها إسقاط الدولة واستمرار الحرب، ومعاناة الشعب الصومالي، فقد كان النزاع بين القيادات العليا للجيش الصومالي بتصفية سياد برى برفاقه من القيادات البارزة والقوية في الجيش واعتقال بعضهم، ثم المحاولات التي قام بها بعضهم للانقلاب عليه- بمثابة فتيل الحرب الأهلية، حيث عمل الطرفان بعد ذلك على استقطاب السياسيين والضرب على وتر العصبية، واستخدام الجيش الصومالي من قبل النظام لضرب القبائل وتجنيد البدو من قبل المعارضة، والزحف بهم نحو المدن بعد ذلك.

ولم يكن الإسلاميون بمختلف مدارسهم طرفا مباشرًا في العمل المسلح لإسقاط نظام برى وإن كان الغالبية منهم من المعارضة السياسية للنظام ، حيث لم يكن لديهم قوات أو مليشيات مسلحة، ورغم ذلك فقد كانوا يؤيدون عمومًا فكرة إسقاط النظام باعتبارهم من الفئات المتضررة من سلطة برى منذ معارضتهم المبكرة للنظام بعد اعتماد الحكومة العسكرية لقوانين الأحوال الشخصية عام 1975م، والخطاب الذي ألقاه الرئيس برى بمناسبة يوم العالمي للمرأة في تلك السنة، التي اعتبرت مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم قيام النظام باعتقال العديد من الإسلاميين المعارضين لتلك القوانين وتصفية بعضهم فيما بعد.

لم يكن عامة الشعب الصومالي رغم الثمن الباهظ لتكلفة الحرب ضد النظام تدرك مخاطر الحرب الأهلية وعواقبها المدمرة إلا بعد انهيار الدولة والتأكد من صعوبة وقف آلة الحرب الطاحنة، لذا فقد كان عامة الشعب والإسلاميون  يعتبرون الإطاحة بالنظام بأنه سوف تعقبه الحرية والتعددية، كتلك التي عاشوها خلال الحكم المدني في الستينيات، وزوال القمع والخوف وعودة القادة الإسلاميين الذين كان يعيشون في المنفى إلى البلاد. ولكن خلال الشهور الأولى بعد الإطاحة بالنظام أدرك الجميع بالصدمة الكبيرة، بعد أن تحققوا من عدم قدرة الجبهات بالمصالحة وإدارة البلاد تحت حكم واحد، وخلال السنة الأولى من حكمهم بدأ الاستياء منهم والحنين إلى العهد البائد.

 (2) الإسلاميون والظرف الاقليمي والدولي في التسعينيات من القرن الماضي

صاحبت التطورات السريعة والجذرية التي شهدها الصومال أوائل التسعينات من القرن العشرين تحولات سياسية إقليمية ودولية كبرى كان لها انعكاساتها السلبية والإيجابية على الأحداث في الصومال وعلى الإسلاميين بصورة خاصة، فقد تزامنت تلك الأحداث الداخلية مع ظروف دولية وإقليمية شجعت الإسلاميين في الصومال على القيام بدور أكبر في البلاد، حيث تغير الحكم العسكري بقيادة منجستو في إثيوبيا المجاورة في نهايات عام 1991م(وهي نفس السنة التي أطيح في بدايتها حكم سياد برى في الصومال) من قبل الجبهة الديمقراطية الشعبية الثورية الإثيوبية بقيادة ملس زيناوي، وتنفست الشعوب المضطهدة – ومن بينهم الصوماليون – الصعداء، وبدأ الكثير من أبناء الإقليم بما فيهم القيادات الصومالية العودة إلى اثيوبيا.

وفي السودان المجاور كانت ثورة الإنقاذ بقيادة حسن الترابي تحكم البلاد، وكانت منذ وقت مبكر من الأزمة الصومالية قد سجلت حضورها المكثف في الساحة الصومالية، وتجري اتصالات مع مختلف الأطراف الصومالية، وقادة الحركات الإسلامية. وفي نفس العام فازت جبهة الإنقاذ في الجزائر في الانتخابات العامة التي أجريت في البلاد قبل أن ينقلب عليها جنرالات الجيش الجزائري بقيادة محمد بوضياف بإلغاء نتائج الانتخابات وفرض حكم عسكري على البلاد أوائل عام 1992م الأمر الذي قاد الجزائر إلى الحرب الأهلية التي تعرف بالعشرية السوداء.

وعلى الصعيد الدولي فقد كانت حرب الخليج الثانية بغزو العراق على الكويت، ثم الغزو الأمريكي على العراق نفسها قد تزامنت مع اشتداد الحرب الأهلية في البلاد وانتقالها إلى العاصمة مقديشو أواخر عام 1990م، وكان لها انعكاساتها السلبية على العالم العربي، وكانت أيضًا بمثابة استفزاز للاسلاميين في المنطقة، وجرى كذلك سيطرة المجاهدون الأفغان على البلاد بعد إسقاط حكومة نجيب الله المدعومة من الاتحاد السوفيتي في نفس الفترة، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه لاحقا واسقلال الجمهوريات الإسلامية منه. وفي القارة الأوروبية جرت في السنوات التالية حرب البوسنة والهرسك وكانت الجرائم التي ارتكبها الصرب بحق المسلمين أثارت الرأي العام الإسلامي، أوجدت مجموعات من الشباب الإسلاميين للذهاب إليها والقتال إلى جانب مسلمي البوسنة ضد الصرب.

وأخيرا كان التدخل الأمريكي بالصومال نهاية عام 1992 في العملية التي عرفت ” إعادة الأمل في الصومال” واستمرت حتي مارس 1995،(1) وكان بعض الإسلاميين – في بداياتها – قد أبدو مخاوفهم من العملية وشككو في نواياها، ولكن العملية لم تشكل خطرا حقيقيا على المجتمع الصومالي ولم تأت نتائجها سلبية مثلما توقعوا. وعلى غرار التدخل في الصومال جاءت تهديدات أمريكية بالتدخل في السودان في تلك الفترة، و كانت تلك التطورات الإقليمية والدولية على وجه الخصوص تلقي بظلالها على الساحة الصومالية.

استغل الإسلاميون بتلك الأجواء الإقليمية والدولية المواتية، وأجواء الحرية المطلقة التي صاحبت الفوضى العارمة بعد زوال الحكم العسكري الذي حكم البلاد 21 عاما بالقبضة الحديدية، إذ لم تعد هناك سلطة مركزية تفرض الناس على نمط معين من الحياة كما كان في الماضي. وساهم كون الإسلاميين الطرف الوحيد الذي يعتنق أيدلوجية سياسية من بين التنظيمات والجبهات الصومالية المختلفة في الساحة في العمل على توصيل رسالتهم إلى المجتمع الصومالي، في وقت انشغلت الجبهات المسلحة بالصراع على السلطة والثروة في البلاد، كما ساهمت تلك الظروف في التواصل مع القوى الإسلامية الأخرى في المنطقة.

(3) الإسلاميون والجبهات المسلحة

لم يشارك الإسلاميون في تأسيس الجبهات المسلحة المعارضة لنظام برى التي نجحت بعد عقد من العمل المسلح ضده في اسقاطه، وقامت بعض قيادة الجبهات ومن بينها الجبهة الوطنية للإنقاذ بقيادة عبد الله يوسف أحمد أولى الفصائل المعارضة للنظام التي تأسست عام 1978م – بالاتصال ببعض قيادات حركة الإصلاح الإسلامية في المنفى للانضمام إليها والعمل معها، ولكنهم رفضوا بتلك العروض(2)، فبالإضافة إلى الاختلاف الأيدولوجي بين الطرفين، فقد كان هناك عاملان أساسيان حالا دون تحقيق الانسجام أو التحالف بين الحركات الإسلامية والجبهات المعارضة المسلحة للعمل معا على اسقاط النظام، وهما: اعتماد الجبهات للعنصر القبلي في العمل المسلح، والاحتماء في أحضان إثيوبيا واعتبارها دولة راعية للمعارضة الصومالية، وهما قضيتان لا يمكن أن يقبلهما الإسلاميون الذين يرفعون الشعار الإسلامي ويضمون في صفوفهم أعضاء من مختلف القبائل الصومالية، كما لايمكن أن يذهبو إلى إثيوبيا حيث يتناقض ذلك مع المبادئ الإسلامية والوطنية التي يؤمنون بها.

ومن جانب آخر كانت الجبهات تستخدم الأدبيات الإسلامية وترفع شعارات الجهاد وتطبيق الشريعة، وكانت تطلق  مقاتليها بـ (المجاهدين) بغرض الحصول على مزيد من التأييد من الشعب الصومالي واللعب على الوتر الديني عند الحاجة، وإضفاء طابع القداسة على عملياتها العسكرية تمامًا مثلما كانت تستخدم الوتر العشائري، ومن جهة أخرى كان بعض أفراد الحركات الإسلامية يبدي تعاطفه مع هذه الجبهة أو ذاك، وذلك من منطق العداء مع النظام على قاعدة (عدو عدوك صديقك) أو من منطلق الانتماء العشائري.  وكان الاتحاد الإسلامي (الاعتصام حاليا) ذو التوجه السلفي قد أعلن أواخر عام 1990م نفسه حركة معارضة للنظام وأعلن نيته في الخوض في العمل المسلح ضد النظام، وذلك دون القيام بأية خطوة عملية عسكرية ضد النظام.

وفي ظل تلك العلاقة التي يعيشها الطرفان الفصائل المسلحة والجماعات الإسلامية التي تقوم فقط على معارضة النظام، دون وجود أي نوع من أنواع التعاون أو التحالف، استطاعت الفصائل الأربعة الرئيسية للمعارضة الصومالية وهي:  الجبهة الصومالية الديمقراطية للإنقاذ (SSDF) في الشمال الشرقي، والحركة الوطنية الصومالية (SNM) في الشمال،  والمؤتمر الصومالي الموحد(USC) في المحافظات الوسطي والعاصمة، والحركة القومية الصومالية(SPM) في الجنوب الغربي – من اسقاط نظام برى في يناير 1991م، ولكنها فشلت في التوصل إلى صيغة للتوافق وإخراج البلاد من حالة الفوضى والدمار، واستمرت المواجهات فيما بينها في العاصمة والمحافظات، وذلك بسبب محاولة الفصائل الكبرى بتحقيق الانتصار الساحق على الآخرين وفرض السلطة بقوة أمر الواقع، وفشلت محاولات المصالحة بين الفرقاء الصوماليين ووصلت إلى طريق مسدود، وتواصلت عمليات القتل العشوائي على أسس النعرات القبلية في الجنوب. وانتشرت المجاعة والفوضى في البلاد، وأصبحت الصومال نموذجا للفوضى والدمار والمجاعة على مستوى العالم.

ارتبطت مواقف الجبهات تجاه الإسلاميين بالمسار السياسي الذي انتهجته الجماعات الإسلامية لاحقا، فقد اتخذ الإسلاميون الصوماليون – وخصوصا حركتي الإصلاح الإخوانية والاتحاد الإسلامي السلفي أبرز نموذجين للإسلاميين في الصومال خاصة في الجنوب – مسارين مختلفتن تجاه الفصائل أصبحا المحددين الرئيسيين لعلاقتهما مع الفصائل المسلحة والعشائر الصومالية، أولها: الابتعاد عن الخوض في القتال الدائر بين الصوماليين، باعتباره فتنة، ومن ثَّم تكون مسئولية الحركات الإسلامية في هذه المرحلة العمل على وقف الحرب والصلح بين الفصائل والعشائر، واتخذته حركة الإصلاح، أما المسار الثاني: فقد كان يقوم على تنظيم الإسلاميين أنفسهم وتشكيل مليشيات مسلحة والسيطرة على المناطق وإقامة إمارة إسلامية، وفرض الحكم الإسلامي عليها وإعلان الجهاد على الآخرين، و اتخذته حركة الاتحاد الإسلامي السلفية.

وعلى هذا الأساس، قامت حركة الاتحاد الإسلامي (الاعتصام حاليا) بإنشاء المعسكرات لتدريب الشباب، وخاضت جولات من المعارك مع مختلف الجبهات، وذلك مع المؤتمر الصومالي الموحد بقيادة عيديد في البداية في منطقة أراري قرب كسمايو عام 1991، ومع الجبهة الصومالية الديمقراطية للإنقاذ بقيادة عبد الله يوسف في المحافظات الشمالية الشرقية في العام التالي، ومع الجبهة الوطنية الصومالية بقيادة عمر حاجي مصلي مدعومة بقوات إثيوبية في محافظة جذو جنوب غرب الصومال عام 1996م، كما أن عملياتها العسكرية تجاوزت الحدود الدولية وخاضت معاركها مع القوات الإثيوبية في الإقليم الصومالي في إثيوبيا، كما أعلنت مسئوليتها في عمليات هجوم وقتل حصلت في مدينتي ديريدوا وأديس أبابا عام 1995م(3)، ومنيت الحركة هزائم متتالية في تلك المعارك.

أدخلت المعارك التي خاضتها الحركة مع الفصائل والقبائل الموالية لها أزمة داخلية مع بعض القبائل وخارجية مع الحكومة الاثيوبية، قادها إلى مراجعات سياسية لقيادات الحركة في مناطق الجمهورية وإلقاء السلاح والاندماج مع المجتمع، وإعطاء الحرية لفرع الحركة في إقليم أوجادين في إثيوبيا في تحديد استراتيجتهم ومصيرهم حول مواصلة العمل المسلح من عدمه، ورفضت بعض قيادات ومجموعات من الحركة بتلك القرارات وتمسكوا في مواصلة العمل المسلح، وهو ما أدى إلى استمرار  وبقاء بعض الجيوب كما كان الحال في إقليم (جدو) في جنوب غرب الصومال.

أما حركة الإصلاح فقد حرصت على الوقوف على الحياد بين الفصائل  والعشائر  واعتبرت المواجهات التي كانت مستمرة فتنة، ودعت أبناءها من مختلف العشائر بالابتعاد عن المشاركة في الحرب، وبدلا من ذلك أطلقت الحركة شعارات ثلاثة للتعامل مع المجتمع الصومالي بما فيهم الفصائل المسلحة وزعماء القبائل منذ عام 1991م هي (الدعوة – الإغاثة – المصالحة) لمواجهة الحرب والأزمة الإنسانية التي أفرزتها، وإعادة ترميم السلم الأهلي.

جنبت تلك السياسية الحركة وأفرادها من التورط في الحرب الأهلية والصدام مع الجبهات المسلحة أو العشائر، وذلك بفضل التمسك بمبادئها والتزام أفرادها للخطوط الحمراء التي وضعتا لهم ،وتجنبهم المواجهة العسكرية وحمل السلاح ضد أي طرف صومالي مهما كانت الاستفزازات وعدم انجرائهم وراء المحاولات المستمرة لتوريطهم في العمل المسلح (4) رغم ما جري لبعضهم (بما فيهم قيادات في الصف الأول) من تعرضهم للقتل في فترات مختلفة من الحرب من قبل الأطراف المتعددة ولأسباب مختلفة، وذلك دون أن تفكر في الانتقام لهم .

استمرت الحركة في تطوير علاقاتها مع مختلف شرائح المجتمع الصومالي، وانضم إلى عضويتها رموز سياسية وعشائرية،  و بمرور الزمن ترسخ وجودها في مختلف المحافظات الصومالية، وقد أكسب انتماء وجهاء وأعيان لديهم وزنهم السياسي والإجتماعي إليها وقيامها على مسافة متساوية من الأطراف المتحاربة قدرًا من الاحترام في أوساط الشعب كان بمثابة حصانة ضد الاعتداء عليها.

(4) الإسلاميون وفكرة إعادة الدولة

لم تكن لدى الإسلاميين في بداية الأزمة رؤية سياسية واضحة تجاه الوضع الصومالي كغيرهم من الشرائح الصومالية- بما فيهم قادة الفصائل- وما سيكون علي الوضع في المستقبل القريب والبعيد، فقد كانوا قد خرجوا من حالة قمع فرضتهم العمل تحت الأرض في ظل وجود معظم القيادات في الخارج، فخرجوا إلى فوضى شديدة وأجواء سياسية بالغة التعقيد وانهيار للدولة ودخول الفصائل العشائرية إلى حروب شاملة، أدت إلى هروب كل فرد إلى حيث تعيش عشيرته، فكانوا يحتاجون إلى نفس يجمعون شملهم ويتحسسون الطريق الذي يسيرون عليه.

وبعد الشهور الأولى بعد انهيار الدولة والإفاقة من الصدمة بدأ ردود فعل الإسلاميين تظهر، وبدت مواقفهم من القضايا السياسية الصومالية الكبرى وأهمها وقف الحرب والمصالحة الوطنية وإعادة الدولة الصومالية مختلفة، تبعا لاختلاف المدارس الفكرية الإسلامية التي ينتمون إليها، والرؤى السياسية التي يحملونها، والعلاقة مع الأطراف السياسية الأخرى وأهمها الفصائل المسلحة التي كانت تتناحر للسيطرة على أكبر مساحة من البلاد من ثم فرض سلطة أحادية من طرف واحد، وفرض قبول أمر الواقع على الأطراف الأخرى، حيث أصبح لزاما على كل طرف أن يفكر في مصيره في ظل حالة الغليان والقتل العشوائي وغياب الافق نحو عودة الأمور إلى الوضع الطبيعي.

وعلى ضوء هذا الوضع المعقد والقاتم اتخذ الإسلاميون استراتيجيات مختلفة لإعادة النظام- كما ذكرنا – أبرزها الاستراتيجية القائمة على العمل السلمي والتهدئة، التي تنطلق من أن المشاركة في الحروب الأهلية لن يوصل الهدف المنشود وإنما يحرف الإسلاميين من تحقيق غايتهم، وأن الاجواء التي تولدت من غياب الدولة والحرية المطلقة تمثل فرصة ذهبية لتوصيل الرسالة إلى المجتمع الصومالي، وبناء قاعدة شعبية تحمل الفكرة الإسلامية، والدعوة إلى المصالحة ووقف الحرب، والحكم الإسلامي يأتي بعد ذلك تلقائيا ومثلته حركة الإصلاح الإخوانية، والثاني: منطق القوة العسكرية الذي يعتمد على فرض الإسلام من الأعلى عن طريق السيطرة على الحكم ومواجهة الجبهات المسلحة المتناحرة على الحكم لتنزيل الإسلام بعد ذلك إلى القاعدة الشعبية ومثلته حركة الإتحاد الإسلامي السلفية.

اتخذت حركة الاصلاح طريقها نحو إعادة الدولة الصومالية عبر النهج السلمي الذي ارتضته لنفسها، وذلك عن طريق مسارين التقيا في نهاية المطاف وساهما في ميلاد الحكومة الانتقالية مع بداية العقد الثاني من الأزمة الصومالية، أولها: هو  مسار التنمية، وثانيها : مسار المصالحة الوطنية، وكان التعليم وإنشاء المدارس من أهم الآليات التي تبنتها الحركة في التغيير الاجتماعي باعتباره مدخلا لخلق الوعي وبناء الشخصية الصومالية المسلمة الواعية، واعتبار الجهل وغياب الوعي هو أساس المشكلة الصومالية القائمة على القبلية والتناحر والانقسام، فأقيمت المدارس بمراحلها المختلفة منذ عام 1992 وصولا إلى الجامعات بعد منتصف التسعينيات،(5) كما قامت الحركة بإيفاد شبابها إلى الجامعات العربية منذ السنوات الأولى من الأزمة.

وعلى المستوى السياسي اتخذت الحركة آلية المصالحة بين القبائل التي سمتها (المصالحة الاجتماعية) وذلك قبل  المصالحة بين الفصائل (المصالحة السياسية)، حيث كان الصرا ع  بين الأطراف الصومالية في مرحلة العنفوان، وكانت الأطراف المتحاربة لا تصغي لأي نداء نحو المصالحة والتهدئة، واستخدمت الحركة إصدار البيانات حول الأحداث الصومالية لبيان موقف الحركة وتوجيه الشعب، كما كانت تطلق النداءات واللقاءات وأحيانا المسيرات للتعامل مع المواجهات ووقف إطلاق النار (6).

قامت الحركة بتطوير آلياتها السياسية نتيجة لإكتساب الخبرات لديها خلال السنوات الثلاثة الأولى من العمل فأنشأت المجلس الصومالي للمصالحة عام 1994م في مقديشو  وفتحت له فروع في المحافظات الجنوبية التي كانت ساخنة أكثر من أي منطقة أخرى، وفي تلك الفترة كانت الحركة تنظم الحفلات والمؤتمرات الشعبية في المناسبات الوطنية والإسلامية كعيد الاستقلال والوحدة والمولد النبوي الشريف وغيرهما(7)،  وأسست مركز القرن الأفريقي للدراسات الانسانية الذي كان يصدر مجلة أسبوعية باللغتين الصومالية والعربية، بالإضافة إلى التقارير السياسية التي كان يصدرها المركز بصفة دورية، وكانت المادة السياسية والإعلامية للمجلة – تحمل في طياتها خطابا مختلفا عن المنابر الإعلامية التابعة للفصائل والقبائل التي كانت تذكي نار الحرب الأهلية بين أبناء الشعب الصومالي،  كما حرصت على المشاركة في مؤتمرات المصالحة الصومالية في دول الجوار بصفة مراقبين كلما تحين الفرصة لها، وتوثقت علاقاتها مع بعض قادة الفصائل وزعماء القبائل من خلال العمل معهم.

و في ظل حالة الجمود التي شهدتها عملية المصالحة الصومالية مع منتصف التسعينات وذلك بعد انسحاب القوات الدولية من الصومال في مارس 1995، وفشل العديد من مبادرات دول الجوار الإقليمي قامت الحركة ببلورة رؤييها السياسية ، وأحدثت آلية جديدة لكسر الجمود الذي ساد في عملية المصالحة، فانتهجت ما سمته “سياسة الأمر الواقع” التي سمحت بموجبها أعضاءها بالانضمام إلى الفصائل المسلحة بعد أن كانت تمنعها في السابق، بل المشاركة في قيادة الجبهات بغرض التأثير عليها وتوجيهها وتغيير المسار الذي تسير عليها ومنع المواجهات المستمرة بينها، وهو ما شجَّع الحركة  على القيام بالمصالحة الشاملة منذ عام 1998م وارسال الوفود إلى المحافظات المختلفة(8)، تلك الظروف التي مهدت الطريق لعقد مؤتمر عرتا في جيبوتي عام 1999م.

ومن جانبها كانت حركة الاتحاد الإسلامي بعد فشل معاركها مع الفصائل والعشائرية في مختلف المحافظات، قد اتخذت قرار حل المعسكرات والمليشيات التابعة لها والانخراط في المجتمع، ما عدا بعض الجيوب والمجموعات التي رفضت قرارات الحركة، واتجه معظم أفرادها في الانخراط في العمل السلمي والتنمية، وقامت انشاء المدارس وملاجئ الأيتام والمرافق الخدمية، والدخول في مجال الاقتصاد والتجارة فأنشأ بعض أعضاءها شركات تجارية ناجحة على طول البلاد وعرضها تخطت حدود القبائل، فساهمت تلك الشركات في انعاش اقتصاد البلاد الذي دمرته الحرب، والمشاركة في تمويل المشاريع الخيرية المقدمة للشعب، وهو ما ساهم في التنمية والاستقرار النسبي الذي شهته البلاد منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي.

وشكل التحول الكبير الذي أحدثه الإسلاميون في المجتمع الصومالي في قيادتهم نحو الاستقرار ووقف الحرب وتغيير البنية الاجتماعية للصراع ، وذلك عبر التنمية من خلال المدارس والجامعات والشركات الاقتصادية وفرص التعلم والعمل التي وفرتها تلك المؤسسات والتحول الثقافي الذي جرى ، ونشأة المجتمع المدني، وتغيير بنية الفصائل المسلحة، وعودة الكثير من الشباب الخريجين من الجامعات في البلدان العربية إلى البلاد، وتقلص مليشيات الفصائل و سلطة أمراء الحرب، ونجاج المصالحة بين العشائر  – الأرضية التي قامت عليها مبادرة جيبوتي للمصالحة وانعقاد مؤتمر عرتا 1999م، وتخطي قادة الفصائل المسلحة وكسر احتكارهم بالقرار الصومالي، وقيادة الإسلاميين والمجتمع المدني في العملية السياسية وميلاد حكومة عبد القاسم عام 2000م ، وكانت الحكومات الانتقالية تنيجة طبيعية للنهج السلمي الذي قادته حركة الاصلاح بالمشاركة مع المجتمع المدني، ومساندة الحكومة الجيبوتية، وفي مؤتمر عرتا في جيبوتي تم وضع القواعد التي تقوم عليها أسس العملية السياسية الصومالية حتى الآن.

 

بقلم/ د. محمد إبراهيم عبدي

أستاذ بالجامعة الوطنية الصومالية وجامعة مقديشو

رئيس تحرير مجلة جامعة مقديشو

 

الهوامش

(1) للمزيد راجع الدكتور محمد أحمد شيخ علي، التدخل الدولي في الصومال- الأهداف والنتائج، مركز الراصد للدراسات، ط1، الخرطوم- 2005.

(2) روى ذلك الشيخ محمد أحمد جر يري المراقب الأول لحركة الإصلاح وذكر ها في أكثر من مناسبة.

(3) Moshe Terdman, Somalia at War – Between Radical Islam and Tribal Politics, The S. Daniel Abraham Center for International and Regional Studies, March 2008, P. 50.

(4) من تلك الهجمات الاستفزازية التي لم تقم الحركة بالرد عليها هجوم زعيم الحرب موسى سودي في أحد مراكز الاصلاح في حي المدينة في مقديشو عام 1996م ونهب الأثاث والجهزة الموجودة فيه.

(5) قام بعض قيادات الحركة بالتعاون مع شخصيات صومالية عامة بإنشاء جامعة مقديشو عام 1996م، وكانت أول جامعة تقوم في البلاد منذ انهيار الدولة وتوقف عمل الجامعة الوطنية الصومالية عام 1990م.

(6)  Abdurahman Moallim Abdullahi, THE ISLAMIC MOVEMENT IN SOMALIA: A Historical Evolution with a            Case Study of the Islah Movement (1950-2000),  Montreal, May, 2011,  P. 258.

 

(7)  Abdurahman M. Abdullahi (Baadiyow), THE ISLAH MOVEMENT: Islamic Moderation in War-torn Somalia, Mogadishu- Somalia, October, 2008, P. 16.

(8)Abid, P. 17.

 

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.