في دولتنا المسلمة هذه ؛ وللمرة الثانية يُصادق فيها رؤساء أقاليمها في مؤتمرهم التشاوري الذي خُتمت أعماله في  العاصمة مقديشو منذ وقت قريب؛ على أن يتقاسموا المناصب العليا في الدولة، والوظائف المرموقة فيها، وعضوية المجلس النيابي العام، والتمثيل الدبلوماسي الخارجي، والسلطات في البلاد عموما على أساس نظام (4.5).

وكانت المرة الأولى التي اتفق فيها زعماء العشائر وقادة المليشيات على تقاسم السلطات في  الدولة على أساس ذلك النظام في عام 2000م، في المؤتمر التصالحي العام الذي عُقد في مدينة عرتا بجمهورية جيبوتي الشقيقة.

ويريد رؤساء الأقاليم هذا النظام؛ لكي يستكبروا في الأرض، ويتحكّموا على العباد، ويبرروا به كل أخطاءهم وظلمهم، ويستولوا على حاضرالأمة ومستقبلها ومصائرها، ويسلبوا به حقوق الناس، ويأكلوا به أموالهم، ويهدروا به كرامتهم، ويستبيحوا به إهانتهم وإخضاعهم، وحتى إبادتهم إذا اقتضى ذلك الأمر.

وشاهدت تصريحا لأحد رؤساء الأقاليم بعد نهاية مؤتمرهم التعيس؛ قال فيه : ” إن نظام (4.5) هو الملائم والأنسب للشعب الصومالي، وهذا الشعب عرف هذا النظام وألفه، وما تألفه وتعرفه أفضل مما لا تعرفه “.

ولا أدري ماذا يريد أن يقول هذا الرئيس المحلي، هل يريد أن يقول : إن الظلم هو المناسب للشعب الصومالي ؟ وهل الشعب يحبّ الظلم والجور، ولا يريد العدالة والمساواة أبدا ؟!

ومما لا شك فيه ؛ أن الاحتقار والتنقيص من كرامة فئة من فئات الشعب؛ بسبب ضعفهم أو فقرهم، أو بسبب عرقهم، ينشر الكراهية والعداوة بين أفراد المجتمع، ويقود الأمة إلى التفرّق والتشرذم،ويعيق بناء جسور الثقة والمحبة الضائعة، ويقوّض عملية السلام والمصالحة بين الأفراد والجماعاتالصومالية، والتي نأمل تحقّقها؛ ولو بعد حين.

وأعتقد أن هؤلاء الرؤساء ونظامهم الجائر؛ خطر وتهديد على وحدة هذا الشعب وترابطه وانسجامه، وهم خطر أيضا على وحدة هذا الوطن وتماسكه وسلامة أراضيه.

تاريخ الاقصاء في البلاد

كان الصوماليون في الماضي يحبون بعضهم البعض ويتشاركون في كل شيء تقريبا، حتى جاءهم المستعمرالغربي اللعين، فزرع بينهم الكراهية والبغضاء، فعمل على تفريقهم وتشتيتهم، ومارس على أهلنا وشعبنا كل ألوان الاعتداء والقهر والتمييز، وعاملهم بالإخضاع والدونية، وأقصاهم من إدارة شؤون مدنهم وبلادهم.

وبعد خروج المحتلّ من أرضنا، تبعه وصار على نهجه الكثيرون من أبناء جلدتنا، وأخذوا منه ثقافته وأخلاقه، وتأثروا به من حيث لا يدرون تأثرا شديدا، وبدأوا يعاملون بعضهم البعض على نفس الطريقة التي كان يعاملهم بها المستعمر المغتصب.

وكان أول المتأثرين بالثقافة الاستعمارية؛ الطبقة التي استلمت حكم البلاد من المحتل الغربي. فبدأت تلك الطبقة يتعالون على شعبهم، وينظرون إليه نظرة احتقار، ويعاملونه بالدونية.

 وكان أول من مورس عليهم الاقصاء والتهميش “الصومال الشمالي” التي جاءت إلى مقديشو طوعا وحبّا لأشقائها في الجنوب الصومالي، واختارت الاتحاد معهم، لكي يحققوا حلم الأمة الصومالية كلها في مكان.

وبعد اتحاد الشمال مع الجنوب، وتكوينهم للدولة الصومالية الموحدة في عام 1960م، لم يقدّر الجنوبيون أشقاءهم الشماليين، ولم ينزلوهم المنزلة التي كانت تليق بهم، فهمّشوهم وتجاهلوهم وألغوا دورهم في الدولة، وأٌقصوهم عن مراكز صنع القرار الصومالي، والذي كان من المفترض أن يكون الشمال جزء مهما فيه، وتقاسم الجنوبيون كل السلطات العليا في البلاد.  فكانت النتيجة؛ أن جعلوا الشماليين يتحسرون ويندمون على اليوم الذي فكروا فيه الانضمام والاتحاد مع الجنوبيين.

ثم بعد ذلك؛ تجلى الإقصاء والقهر  بشكل أكبر في الجمهورية، عندما استلم الجنوبي سياد بري الحكم في البلاد، عن طريق انقلاب عسكري أبيض في عام 1969م. فبدأ من يومه الاقصاء والقهر والاغتيال لكل الصوماليين، ولكل من ينتقد طريقة حكمه للبلاد، أومن يخالفه في الرأي من الأفراد والجماعات والقبائل الصومالية، سواء كانوا من الشمال أو الجنوب. ولم يسلم من شره حتى رفقاءه الذين شاركوه في قلب الحكم في البلاد، فقتلهم واحدا تلو الآخر.

 ولم يسلم من بأسه كذلك علماء الأمة وشيوخها الكرام، فسجن وعذب كثيرا منهم، وأزهق أرواح عشرة منهم حينما صدعوا بالحق، ولم يخافوا في الله لومتة ولا بأسه، ونصروا كلمة الله التي جحدها حين تجرأ على الله وقال جهارا نهارا : “لا نصف ولا ثلث ولا ربع ولا سدس “.

وفي عام 1990م، بعد هروب سياد من الصومال، حملت أغلب الجماعات الصومالية السلاح، ورأت كل منها أنها أفضل من غيرها، ولا قيمة لغيرها من الجماعات والفصائل، و أنها التي ينبغي لها وحدها أن تحكم البلاد. وقاد هذا الفكر الاقصائي بلادنا إلى فوضى عارمة واحتراب دائم لا يتوقف.

وفي عام 1999م استدعى الرئيس الجيبوتي اسماعيل عمر كل الجماعات والفصائل والمليشيات الصومالية، وعقد لهم مؤتمرا تصالحيا عاما، لكي ينهوا خصوماتهم المريرة ومواجهاتهم الدامية في البلاد.

واتفق زعماء الحرب والسلاح بعد مفاوضات طويلة وشاقة أن يبنوا دولتهم ويقسموا المناصب فيها على نظام 4.5 الجائر، والذي لم يكن يعرف حقيقته أحد من العالمين.

وأعتقد أن شعبنا سيظل غارقا في هذا المستنقع الآسن المتعفن الذي لزمه لأكثر من عقدين من الزمن، ولن يعود إلى الوطن الأمان والاستقرار إلاّ بعودة الأمة إلى الرشد والحق والعدل.

 والله سبحانه لن يقيم ولن ينصر ولن يمكّن لدولة لاينصر فيها المظلوم، ولا يأخذ الضعيف فيها حقه. ويقيم الله وينصر ويمكِّن الدَّولة التي يُنْصَر فيها المظْلوم، ويأخذ الضعيف فيها حقَّه.

يقول الصّادق المصدوق سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: [ لا يُقدس الله أمة لا يُقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع ].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بنص صريح جدا : “إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدَّولة الظَّالمة، وإن كانت مسلمة”.

ونحمد الله سبحانه، بأنه لم يجعل خزائن رزقه ورحمته وفضله في يد الانسان، ولو كان كذلك؛ لجار في القسمة، ولبخل الفضل على عباد الله ، ولمنع كثيرا منهم الرزق والرحمة والنعمة.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا }. وقال : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا، ولا مقدار نقير.

الناس سواسية

تفضل الله على جميع عباه “الكرامة” بشكل مطلق، حيث يقول في محكم تنزيله : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ }. أي: كرمنا كل أبناء آدم بلا استثناء. ولم يجعل الله مقياس الكرامة بأعداد الناس؛ لا بكثرتهم أو قلتهم، ولا بغناهم أو فقرهم، ولا بحسبهم أونسبهم أوعرقهم.

وعلمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الناس جميعا سواسية كأسنان المشط، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا فضل لأبيض على أحمر ولا على أسود؛ إلا بالتقوى.

وأخبرنا الله سبحانه وتعالي أنه لم يقم السماوات والأرضين، ولم يبعث الرسل ولم ينزل الكتب، إلا لنشر القسط والعدل بين خلقه وعباده، وأن القسط هو سبب صلاح العالمين، وبفقده يفسد أحوال  الخلق أجمعين، فيقول : { لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

وأمر الله سبحانه عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يعدل بين الناس، فقال : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.

وأمر الله عباده بأن يعدلوا ويقسطوا فيما بينهم دائما وأبدا، فقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

وأمر الله المؤمنين العدل والإنصاف حتى مع أعداءهم ، حيث يقول : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ}.

وأمر الله كذلك العدل بين الزوجات، حيث قال سبحانه : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}.

وأمر صلى الله عليه وسلم العدالة بين الأولاد  فقال : (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

حرمة التحقير:

حرم القرآن تحقير المسلم بأي شكل من الأشكال، حيث قال الله فيه :  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} ،  قيل معناه : من لقب أخاه أو سخر به فهو فاسق.

ويقول الله في الحديث القدسي: ( يا عبادي ؛ إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّما فلا تظالموا)…

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ( وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا؛ ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم؛ كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

نماذج العدل في الإسلام

عن النعمان بن بشير قال : تصدق عليّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا،  قال صلى الله عليه وسلم :  اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي رواية أخرى:  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بشير ألك ولد سوى هذا قال: نعم، فقال أكلهم وهبت له مثل هذا قال لا قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور).

ومن تطبيقات العدالة في الإسلام ؛ أن عليّا بن أبي طالب  رضي الله عنه افتقد درعه يوما من الأيام فوجدها عند رجل نصراني ، فاختصمه إلى شريح القاضي ، فقال عليّ مدعياً: الدّرع درعي ، ولم أبع ولم أهب، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال: ما الدّرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ. فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن النصراني صاحب اليد على الدّرع، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين أصاب شريح ، مالي بيّنة، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني ، وأخذ النصراني الدّرع وانصرف بضع خطوات ،ثم عاد فقال أمّا أني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين ، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين ، فخرجت من بعيرك الأورق. فقال علي: أمّا و قد أسلمت فهي لك.

بقلم/ عبد الرحمن سالم

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.