قد يظن البعض أنه لا يوجد صراع  أصلاً، وأنّ عنوان الموضوع مبالغ فيه، ولكن دعوني أحدّث ولا حرج، وأقول ان ما يحدث في الصومال هو صراع الأفكار والمبادئ بعينه ، وقد يَتَبلْورُ ذلك الي حرب أكثر شراسةً من الحروب القبلية في الصومال – هو صراع بين المغتربين وغيرهم من الذين لم يهاجروا الوطن الي دول أجنبية.

ولكن، وقبل أن أدخل في صميم موضوع الهجرة الخاصة بالمغتربين الصوماليين، أودُ أن أشارك أمرًا هجّج مشاعري وجذب انتباهي – عندما كنت مسافرا من العاصمة البريطابية لندن الي الصومال قابلني رجل عند المطار وسألني ما اذا كنتُ مستعدًا أن أعطي دقائق قليلة من وقتي ليسألني فيه بَضع الأسئلة.  في الحققية لم أتردد في الأمر ورحّبتُ به على الفور لأسبباب عدة منها: أن وقت اقلاع الطائرة لم يكن قد حان بعد حينئذ’ وكنت أيضا أرغب في معرفة ماهية الأسئلة، ولماذا اختارني الموظف من بين سائر المسافرين لأسئلته. الرجل كان في زيّ موظف عادي ولم يكن شرطياً، والاّ لكان الأمرُ عندي اصعب، وكانت معه فتاة في نفس الزيّ ايضاً والتي كانت على ما يبدو مساعدته في جمع المعلومات وتدوينها.

وكوني مسلماً يعيش في الغرب سرعان ما انتَابني الشكّ وشعرتُ بعدم الأرتياح بالرغم انني لم أجبر بقبول الأمر وكان تطوعيا بحتاً، وكان باستطاعتي أن أعتذر ببساطة واُواصل الي قاعة الأنتظار. وقبيل طرح قائمة ألاسئلته عليّ، ذهب خيالي بعيداً أتساءل عن ما سيطرح عليّ من أسئلة، ولكننّي في نفس الوقت كنت واثقا من نفسي ومن نزاهة ملف سيرتي الذّاتي الخاليّ من كل شائب – حتي المخالفات المرورية لم تكن فيه – فضلاً عن جرائم أعظم. لذالك لم يكن لديّ ما اخفيه،  وهذا ما شَجّعني بان أجيب على جميع الأسألة بكل شفافية واطمئنان ومع ابسامة عريضة كنت أخفف بها انزعاجي اللاراديّ.

خلال خمس دقائق فقط ، وكما وعد الرجل، أنهى جميع أسئلته وكانت كلها تُدندنُ حول الهجرة الّا ان بعضها كانت شخصيّة ومُحرجة مثل: لماذا تسافر، والي اين، ومتى ستعود؟ ما هي المأهلات العلمية والوظيفة؟ كم عمرك ، ومدة الأقامة في بريطانيا، والجنسية الحالية والسابقة؟ وهلم جرا…

وفي النهاية طلبت من الرجل أن يوضّح لي غرض جمع المعلومات وما يستخدم لها.  وقبل ان اكمل كلامي ناولني الرجل كتيبات كانت لدى مساعدته وطلب مني ان اقرأها في الطائرة خاصة عندما أشعر فيها الملل. وطلب مني كذلك ان أتصل به اذا كان لدي اي أسألة تتعلق بالموضوع.

كانت الكتيبات تشير احصائيات عن الهجرة في السنوات الماضية ومدى تاثيرها علي نمو الأقتصاد وتركيبة السكان في بريطانيا. ومن خلال الصفحات القليلة عرفتُ ماهية موضوع الهجرة ولماذا تهتم به الدول المتقدمة. أضافة الي ذلك، كانت الدراسة تشير ان نسبة كبيرة من الكوادر المؤهلة من المملكة المتحدة تسافر الي الخارج سنويا ، خاصّة الى الخليج العربي، بحثاً عن فرص عمل أفضل، وارتفعت الهجرة اكثر بعد الأزمة الأقتصادية التي ضربت أوروبا في عام 2008م ، ممّا اثّر سلبياً على سوق العمل في الدوائر الحكومية مثل التربية والصحة، وهذا ما دعى بريطانيا لجلب كوادر مؤهلة من الخارج وقبول عدد كبير من اللاجئين ليعوّضوا النقص الحاد في سوق العمل. من هنا عرفتُ أيضاً سبب تقدم الدول الغربية ولماذا تستثمر في بناء الإنسان وعقله، وان هذا هو الثروة الحقيقية والرصيد الدائم لكل دولة ترغب أن يدوم كيانها شامخاً من بين الأمم، وهو الضامن للرقيّ والتقدم على الاخرين في كل المجالات المختلفة. وهذا ايضا ذكرني قصيدة القائل:

”العلم يبني بيوتا لا عماد لها ** والجهل يهدم بيوت العز والشرف”

بعد تلك اللفتة والمقدمة القصيرة، دعوني أدخل في موضوعنا المتعلق بالصوماليين المهاجرين. واقول انه لا تُوجد احصائيات رسميّة تخصُّ عدد المغتربين الصوماليين حول العالم ، الاّ انّه يعتقد أن في أوروبا وأمريكا لِوحديهما يعيش بحوالي نصف مليون مهاجر صومالي. وكذلك هناك عدد لا يستهان به من الصوماليين يعملون في الدول العربية، وخاصة الخليجية، اضافة الي جنوب أفريقيا وغيرها من دول القارة السمراء. هؤلاء جميعهم يحوّلون سنوياً الى الصومال اكثر من مليار ونصف دولار أمريكي وذلك على حسب دراسة نشرت من قبل مكتب الأمم المتحدة للتنمية. وهذا العدد، من المهاجرين ومن المبالغ المُرسلة، في ارتفاع دائم سنة تلو الأخرى بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة في البلاد.

Qurbojoog باللغة الصومالية تسمّى شريحة المهاجرة من المجتمع.

وهذا الأسم يُشار به على وجه خاص للمغتربين في أوروبا وأمريكا العائدين الى الوطن، و هذه الشريحة هي المعنيّة في هذا المقال.

في السنوات الأخيرة، ولاسيّما بعد تشكيل الحكومة الفدرالية في اغسطس 2012،  شهد الصومالُ تزايداً ملحوظاً في عدد هؤلاء المغتربين العائدين الي الوطن “كهجرة معاكسة ان صحّ التّعبير” لا لزيارة الأقرباء والأصدقاء فقط، بل انّما أيضا لأجل الإقامة والاستثمار في المجالات المختلفة، وردِّ الجميل لبلدهم الأصل الذي اشتاقوا له طويلا لشواطئه الرمليّة ومناخه العذب المُعتدِل.

العودة الي الوطن لم تقتصر علي الصوماليين في الصومال فقط ولكن شملت المنطقة كلها خاصة الدول المجاورة مثل كيننا واثيوبيا حيث عدد كبير من مواطني تلك الدول ينحدرون من اصول صومالية ولهم ارتباط ديني وعائلي وثقافي ولغوي مع الصومالين في الصومال رغم  الحدود السياسية التي تحول بينهم.

والسؤال الذي يبادر الى الأذهان هو ما اذا كانت هذه الهجرة “نعمة” يمكن استفاذتها في شتّى المجالات التنمويّة، ام انّها “نقمة” تهجّر فقط عقولاً سليمة ولا تاتي الا بأخرى فاسدة.­­

نظرا لتباين وجهات النظر في الموضوع، وعدم وجود دراسة رسمية حوله، فانّه من الصعب تحليل الموضوع بشكل واسع ودقيق، الّا انّنا سنحاول وضع النقاط على الحروف وبسرد آراء مختلفة من المعسكرَين (المغتربِين وغير المغتربِين) لنستطيع من خلال هذه المحاولة معرفة طبيعة الصراع بينهما.

المعسكر الأول – غير المغترب يقول:

المغتربون هم راس الأفعى والمموّلون الرئيسيون  في الحرب الأهليّة سابقاً والتي أتت على الأخضر واليابس في البلاد، وهم من يُؤجّج الفتنة وعدم الاستقرار في الصومال حتّى الآن. المغتربون انّهم عند الشدّة غائبون مع أسرِهم في الخارج، امّا عند الرّخاء فتراهم ياتون من كل فجّ عميق، يزاحمون الاخرين في الوظائف الحكومية، ويرفعون المعيشة واجارات البيوت وبيع العقارات وحتى المُهور. كذالك لم يعد سهلاً للمواطن العاديّ ان يعيش كالمعتاد وان يُكوِّن أسرة اوأن يعُولها. المغتربون ياتون بافكار هدّامة وعقول مشبّعة بفلسفة أجنبية لا تخدم الدِّين ولا الوطن ولا المواطن.

المعسكر الثاني – المغترب يقول:

 المغتربون أتوا بالخِبرة والمعرفة، وفي محفظتهم العُملة الأجنبيّة لأجل النُهوض بالوطن وتنشيط حركة السُوق من خلال استثماراتهم المتعددة. هم مواطنون كغيرهم، بِغطّ النظر عن الجوازات الأجنبية التي يحملونها في جُعبتهم ، وعلى هذا يحقّ لهم البقاء في بلدهم الأم، وتولّي مهام الحكم المتعدّدة فيه ، وانّهم هم الوحيدون القادرون من اخراخ بلدهم من المأزق الذي فيه. عانوا كثيرًا في الغربة وفراق الدُور والأهل، والآن هاهم راجعون ليكونوا سنداً وذخرًا لبلدهم الحبيب.

تلك أراء الحِزبين – على وتيرة حلقة “الاتجاه المعاكس” – ولكن هذه الحلقة لا تنتهى بانتهاء وقت البرنامج بل تمتدّ مادام الفريقان يشاركان مصالح وطنيّة على أرض الأجداد والي ان يرث الأرض ومن عليها.

اذاً السؤال الملح هو ما اذا كان الصراع الكلامي يمكن له ان يتطوّر او يشكل تهديداً علي الهويّة الصومالية  أو ينشر حرباً من نوع أخرى…

 نعم قد يمكن أن يحدث ذلك والدليل على هذا ما أحاول تلخيصه في ما يلي:

أ- نلاحظ في الصومال تشكُل هذه الطبقتين في المجتمع حيث لكل واحدة لها نواد خاصة بها، وقلّما تختلط بالأخرى، وهذا ما شكّل شرخاً كبيرًا وتباعدًا في الآراء والاتجاهات في المجتمع.

ب- شريحة المغتربين استحْوذُوا على المناسب الحكومية ولم يعطوا فرصة  للآخرين ممّا باعد الفجْوة وشكّل تكتلات خطيرة بحيث كل واحدة منهما تسعى حثيثا للتغلب على الاخرى من خلال وضع عراقيل واشاعات مُبرمجة للحيلولة دون الوصول الى مناسب مهمة في الحكم.

ج- لا توجد مؤسسات وطنية او حكومية ترعى مصالح الفريقين من خلال وضع استراتيجيات مدروسة ولوائح قانونيّة يتقيّد بها الجميع وتجرّم مخالفيها. وهذا ما اعطى الفرصة لكل شريحة ان تحاول القضاء على الأخري بدون راقب ولا محاسب. وما يزيد الأمر سوءً أن لكل فريق يسخر علي الآخر بدون ان يبحث عن نقطة التقاء الخطور في المصالح العامة للوطن والمواطن و التي لا يمكن تحقيقها الّا بالتكافل الاجتماعي والوحدة في الصف علي أسس وطنيّة ثابتة.

تلك قد تكون بداية شرارة نار حرب جديدة في الصومال ان لم تتمكن الحكومة الصومالية تدارك الأمرعلى الفور وقبل فوات الأوان….

وهذه نقطة الفراق بين الدول المتقدمة التي تهتم بعقول مواطنيها وخبرتهم بحيث تقيم دراسات واحصاءيات مستمرة لأجل تطويرها والاستفادة منها في شتّي المجالات، وبين الدول المتأخرة التي لا تهتم كثيرًا بالعلم بل تراه تهديدًا علي مصالح الدولة وعلى كرسي الحكم. وهذا ما يشجع الهجرة (هجرة العقول) الي الخارج وترك الوطن يتخبّط في ظلمات الجهل والجوع والحروب المستمرة…

 بقلم/ م. عبد حسين

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.