استدعى الدور التركي المتزايد في الصومال منذ خمس سنوات اهتماما متزايدا في الوسط البحثي والصحافي وفي الدوائر الرسمية الإقليمية والدولية، إضافة إلى الشارع الصومالي المزدحم بالمشاعر المتباينة تجاه هذا الضيف الجديد على بلدهم الذي تحول لأحد أبرز نماذج عولمة الحل المحلية والتداخل المصالحي الدولي.

وهذا الاهتمام لم يأت من فراغ، إنما هو عائد إلى التأثير غير المسبوق الذي أحدثه التدخل التركي في الساحة الصومالية على صعيد الوضع الإنساني، والتنمية، والاقتصاد، وحتى التفاعل الدولي مع القضية الصومالية.

بداية قوية:

بدأ التدخل التركي في أوج أزمة الجفاف التي عصفت بالصومال سنة 2011، والتي اعتبر الأسوء في تاريخ البلاد من أكثر من نصف قرن، واختارت تركيا لتدخلها أن يبدأ بقنبلة إعلامية سياسية أجبرت العالم كله على الالتفات للصومال، وذلك عبر زيارة رئيس الوزراء التركي حينها والرئيس حاليا رجب طيب أردوغان للعاصمة مقديشو، التي كانت لتوِّها تفيق من حرب مدن طويلة ومدمرة بين حركة الشباب وقوات الاتحاد الأفريقي.

البداية القوية كانت ذات دلالات عميقة، فأعلى مسئول في هرم السلطة التركي، قرر التخلي عن احتياطاته الأمنية والنزول لشوارع مقديشو ومخيماتها، في رسالة محرجة للمجتمع الدولي من جهة، كسبت من الجانب الآخر قلوب الشعب الصومالي لصالح الوافد الجديد، وأظهرت جدية تركيا تدخلها الإنساني في الصومال.

لقد رافق هذه الزيارة حملة منظمة ضمت أجهزة الدولة التركية والمنظمات الإنسانية غير الحكومية من جهة، ورجال الأعمال والقطاعات الخدمية من جهة أخرى، وركزت بكثافة على الجانب الإنساني وذلك بإسناد شعبي ضخم أفزر حملات جمع تبرعات جمعت أكثر من 300 مليون دولار بعد 3 أشهر من زيارة أردوغان.

وأحدثت المعونة التركية نقلة كبيرة في واقع المعونات الإنسانية المقدمة دوليا في الصومال، فالأغذية المقدمة من تركيا للنازحين والمتضررين من المجاعة والجفاف، والمخيم التركي في مقديشو للمتضررين من المجاعة كان الأول من نوعه وأبهر الجهات الدولية المانحة.

من الإطار الإغاثي للإطار التنموي:

ترافق الزخم الإغاثي التركي مع مسار تنموي مواز اتخذ أوجه عدة، ففي المجال التعليمي فتحت تركيا أبواب جامعتها لآلاف من الطلبة الصوماليين من خريجي مدارس وجامعات الصومال عبر برنامج المنح الحكومية وعبر منح خاصة أخرى.

ومع إعلان انتهاء كارثة الجفاف سنة 2012 دشنت تركيا مشاريع إنشائية تنموية تراوحت بين بناء المستشفيات والمراكز الصحية وبناء المدارس ودعم الجامعات، إلى ترصيف الطرق ودعم برامج البلديات كجمع النفايات وما إلى ذلك.

وقد فاق هذا المسار في الأثر حملة الإغاثة التي سبقته، لأن البرامج التي تحققت فيه أثرت في حياة كافة شرائح الشعب، هذا رغم بساطتها وحتى قلتها.

لقد امتد المسار التنموي التركي في الصومال إلى المرافق الحيوية كمطار مقديشو الدولي والميناء البحري، اللذان يمثلان مصدر الدخل الأول للحكومة الصومالية، فقد تعاقدت الحكومة مع شركتين تركيتين لإعادة تأهيل وإدارة المطار والميناء، وأثمر التعاقد إعادة تأهيل كاملة للمرفقين مهدت لمضاعفة الرحلات والدخل.

السياسة والأمن، كيف زاحمت تركيا “كبار المساهمين”:

لم تكتف تركيا بمجالات الإغاثة والتنمية والتعليم والبنية التحتية، لكنها مدت يدها نحو المجال الأمني والسياسي، وهي مجالات احتكرتها قوى الإقليم بشراكة “المجتمع الدولي” الممثل بالاتحاد الأوروبي وأمريكا منذ وقت طويل.

ورغم التململ الواضح من الدور التركي المتصاعد، لم تتردد تركيا من الدخول إلى هذه المجالات، إذ حاولت تولي ملف تدريب وتجهيز الجيش الصومالي وأجهزته الأمنية، لكن معادلات القوة في الساحة الصومالية حرمت تركيا من الاستئثار بالملف، ولم يدفع ذلك تركيا للتقهقر بل دخلت في اتفاقيات ثنائية مع الحكومة شرعت فيه باستقبال بعثات للتدرب في الكليات العسكرية التركية تم تدريب بعضها كطيارين وملاحين عسكريين، كما تولت تركيا بناء وتجهيز قاعدة الجيش الصومالي الرئيسة والوحيدة في ضاحية جزيرة جنوب مقديشو.

وأما في المجال السياسي، فقد نجحت تركيا في استبدال لندن بإسطنبول كعاصمة المؤتمرات الصومالية، واستقبل فيه عددا من مؤتمرات المانحين ولقاءات المصالحة الصومالية، وكان أن تمخض من أحدها أبرز خطوة إلى الأمام في ملف صوماليلاند، حيث اتفقت إدارة صوماليلاند مع الحكومة الصومالية بإدارة مشتركة للمجال الجوي الصومالي لأول مرة منذ اندلاع الأزمة بين الطرفين.

لقد تحولت الصومال لأيقونة استراتيجية “السياسية الخارجية الإنسانية” التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية الحاكم، ونموذجا رائدا للدور التركي الأوسع في أفريقيا، وذلك ما تم تتويجه بافتتاح تركيا لأكبر سفارة لها بالعالم في العاصمة الصومالية مقديشو.

“إثارة شهية” قوى إٌقليمية للدخول بفعالية إلى الصومال:

أعاد الدور التركي في الصومال وضعها في بؤرة الاهتمام الدولي والإقليمي، وذلك ضمن أطر تنافس القوى حجز موطئ قدم في البلاد التي باتت ساحة جديدة للتدافع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، خصوصا في أجواء وتداعيات الربيع العربي، فبعد فترة قليلة من بروز الدور التركي في الصومال، برز نشاط إماراتي محموم لم يخف منافسته للدور التركي، فكان أن افتتحت سفارة إماراتية بمقديشو، مهدت لتوغل قوي في الأرضية السياسية الصومالية.

ورغم قوة النشاط الإماراتي إلا أنه اتسم ببعض الملامح التي ميزته بشكل واضح عن التدخل التركي وإلى حد بعيد، فقد اتسم المشروع الإماراتي في الصومال بملمح أمني طاغ على باقي الجوانب السياسية والتنموية، بدأ من شمال شرق البلاد إلى مقديشو وانتهاء بالجنوب في كسمايو.

وهذا ما اختلف عن الدور التركي الذي تميز – إضافة لحياده المطلق تجاه ألوان الطيف السياسي – بالتوازن الكبير بين الجانب الإنساني التنموي والاقتصادي من جهة، والمجال الأمني السياسي من جهة أخرى، ما يخلف انطباعا حسنا لدى رجل الشارع الصومالي.

ويتخوف مراقبون من التأثيرات الضارة على مجمل الوضع الصومالي لاختلال التوازن في الدور الإماراتي لصالح الملف الأمني والعسكري، فهي إشكالية ساهمت في تحول أدوار دول الجوار الصومالي من قبل إلى مشكلة بدل كونها جزءا من الحلول، وذلك حسب المراقبين.

كما أن الطبيعة غير المتوازنة للتدخل الإماراتي قد تدفع للتساؤل حول جدية هذا الدور في المشاركة الإيجابية في الشأن الصومالي، أو دخوله لأجندات أخرى.

مآل الدور التركي في الصومال:

وإن كان جل المراقبين يقطعون بجدية تركيا في مشروعها بالصومال وهو ما يراهن عليه وإلى حد كبير مؤيدو هذا الدور، فإن موقع تركيا في السياسة العالمية وقبل ذلك في الحلبة الأفريقية سيكون على المحك حسب نجاحها في الصومال أو عدمه.

ورغم ذلك فمما لا شك فيه أن صومال ما قبل الدور التركي ليست كصومال ما بعده، فتأثيرات هذا الدور امتدت من شوارع مقديشو وموانئها البرية والبحرية إلى مراكز قوى الإقليم وأروقة صناعة القرار الدولي، ما بين القبول والتوجس من قبل اللاعبين الخارجيين، والترحيب من قبل الشارع الصومالي.

وعلى أي حال فإن الدور التركي دفع بالصومال مجددا بشكل أو بآخر نحو دائرة مركز الاهتمام الدولي، بعد خروجها منها منذ انسحاب القوات الدولية من الصومال سنة 1995م، كما أنه نجح في كسر تنميط المجتمع الدولي وحلفاءه من اللاعبين الإقليميين للحالة الصومالية فيما بعد تلك الفترة واختزاله لها بالهاجس الأمني وكوارث الجفاف، ودخلت القضية الصومالية من خلال هذا الدور – وعبر رؤية الساسة الأتراك المتعددة المحاور – إلى آفاق جديدة.

 

بقلم/ فريق التحرير

 

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.