يوم من أيام الصيف فى مقديشيو، الشمس مكتئبة لإكتئابى..  ما كان لى قدرة أن ألوم ..الزمن المكان … النفس .. كل شئ  قدر الأقدار .. شئ محتوم.. مشيت حاملا بمتاعب الأيام وخواطر

تدس  وجدانى .. فى السماء مطر وعليل  و روضات القلب ليس لها عشق بتعانق الهواء الطلق وعطر الزهور,. قلبى يدمع دماً وعناقيد الوطن ذابلت أوراقها، السماء ملبدة بالغمام وحمامة السلام اغتالوها .. هاجر الأصحاب من البلد  … هاجروا لم يبق واحد… هاجرت هدى ومنى و ياسمين, هاجر سعيد و عثمان.. إبتلعت بعضهم البحار ورحلوا من الدار الفناء ، سعدية و هدى أتى أجلهم  فى سواحل الطليان ….  تلك  الليلة عبرت القارات و البحار رسمت رحلة نهائية طالبا للدراسة… رسمت عبورى بين شرق الدنيا و غربها…خواطر القلب كثيرة.. أخر خاطرة هاتفتنى مع شققة  الفجر وعليل الفلق  كان السفر الى مصر .

إتصلت  بالسفارة المصرية فى كينيا إستقبلنى صوت إنسانى  رقيق يذكرنى نخوة العروبة

و سألنى من أنت ؟ وماذا تريد ؟ ..قلت من مانديق* [1] ومسافر الى مصر المحروسة … فلم يتأخر ولم يتردد وإستجاب طلباتى ..وصلتنى التأشيرة بمدة قصيرة ،و تغرد البلبل العاشق وتفوح عطر البخور من جوارحى ..تمايلت كغزال فى رحاب الربيع… حملت حقائبى ..ودعت زملائى .. المطار بعيد والبلد غير مستقر… وقفت الباب  ونظرت ورائى  دون إرادة ..زهرة الحياة  تنادينى بدموع ، عدت وتمرغت على خديها … دموعها عنبر ومسك للنفس ومرهماً للوجع ،آه .. مسحت قطرات الندى من عين الغزال.  ركبت السيارة وإتجهت الى المطار ، قلت لزملائى لا تركبوا معى لا أريد أن أراكم …تنهمر دموعى كلما أراكم  … إرحمونى ودعونى من بعيد كلما أراكم  أتذكر زمن فات .. أتذكر يوم الأربعاء ،الثلاثاء ،الأحد ،الجمعة… ركبت الطائرة، لم أكن أعرف مقعدى فى الطائرة  جلست  بمقعد قريب لشباكة لأرى كيف تقلع وكيف تهبط ،هى أول مرة ركبت الطائرة ،الركاب كلهم من أهل بلادى ، فتاة جميلة سمراء جلست بجوارى …لم أتكلم ولم ألتفت… قرأت دعاء و قصائد و إبتهالات حفظتها فى حضرة والدى “الحفظ فى الصغر كالنقش على الحجر ” . عدت الى الوراء الى بيت والدى  الصوفى  رجعت الى زمن فات…..  مالت مشاعرى  الى جانب الأيسر . الفتاة لا تتكلم… شعورها الداخلى حملها ووضعها على قارب فى المحيط لاتعرف ساحله  خرجت من بلدها كرهاً ولاتدرى الى اين تتجه, كانت فتاة يانعة يئسها  الزمن,  تنميت أن اخفف عنها بعض أشواك القلب التى تدك مساميرها . سلمتها برحلة سعيدة.. رحلة سعيدة…  إبتسمت وأرادت أن تقول لى شئ لكنى أردفت قائلا.. لم أكن أعلم  بأنى محظوظ.. و غزالة مثلك ترافقنى فى هذ         ه الرحلة وتجلس بجوراى…إبتسمت…ثم تتطرقنا  أحاسيس الوجدان,… وصلنا  بمطار دبى.. إتجهت إلى بوابة الخروج تودعنى بنظرات بعيدة وبمشاعرعقلتها الظروف.. وإتجهت الى صالة الانتظار.

تجولت فى صالة الإنتظار … وفى ركن بعيد صادفت  بجسم أسمر  كانت فتاة يانعة .. تبمست وخطوت نحوها ..كانت كظبية ترقد على كثبان عشب  أغدقت عليها السماء غيثاً…فتاة صومالية قادمة من أوربا طال مدة إنتظارها…سلمتها بتحيتنا التقليدية إقتربت اليها تلاحظ من عينيها التعب والأرق..تبادلنا كلمات وردية, ذكرتنى أنها حائرة فى المطار ولم تذق طعم منذ فترة ..إتجهت نحو المطعم   وقدمت  لها وجبة غذائية من الأرز ،إفترشنا على الأرض كانت تأكل بإستحياء… تناولت كتاب جديد من عندها  من الروايات الصومالية طبعت فى أوربا … تصفحت صفحاته كشرب الزلال وكلام العيون تجرى بيننا ….أحلى الكلام كلام العيون… تبادلنا الأخبار وحكايات عن البلد….حكت لى  حكايات عن المهجر ..تنهضت قائلا.. يسعدنى لقاءك و سأبقى معك حتى يأتى توقيت سفرى ..أخذت الشنطة  متوجها الى بوابة السفر . أردت  وداعها مرة أخرى ولكن قبل أن أضع قدمى على المصعد سمعت نداء الرحلة…ودعتها بعيون بعيدة وتوجهت نحو البوابة وركبت الطائرة إلى أبو ظبى وبعد ربع الساعة وصلنا أبوظبى لننتقل مباشرة الى الطائرة المتوجهة الى القاهرة….أخذت الحقيبة ولم أتذكر الصحف والرداء التى كانت تحت مقعدى،نزلت بسرعة وركبت الطائرة ..جلست مقعدى .. هى آخر الرحلة ونهاية السفر..المحطة الأخيرة هى القاهرة. ..وفى هذه الرحلة ايضا فتاة جميلة كانت بجوارى ..الركاب مشغولون بتشغيل جهاز التلفزيون الخاص ليشاهد كل راكب ما تشتهى به نفسه ، فأردت بتشغيل التلفزيون ولكن لم أعرف و كنت أظن أن أى شئ كهربائى فى الطائرة يؤدى الى حطامها ولم أقترب الجهاز …بدأت الفتاة بتشغيل جهازها ومشاهدته فحسست أن أفتح معها الكلام فتحيرت  بجنسيتها . تحدثتها بالإنجليزية …فأجئتنى بأنها من أب مصرى وأم بريطانية ..ساعدتنى فبدأت بمشاهدت القنوات… كنا فوق الضباب وعلى جناح طائر لا نعرف هل يضعنا على غصن الزيتون أم يرمينا  على ركام بين السماء والأرض ..أغلقت القنوات وإكتفيت بسماع القرآن الكريم ومشاهدة بديع السموات وقدرة خالق الكون جل جلالة…

تذكرت بيت من قصيدة…وكل شيء له  أية تدل على أنه واحد

وحين أميل الى  يسارى أرى شعر الفتاة  يتسلسل الى جوارى ، والى يمينى أرى سحائب الكون تموج كالمحيط  وكأننا فوق مياه البحار ، سكت متأملا  ماذا بعد الرحلة… شقاء أم سعادة.. بل السعادة مادام المسافر فى عناية الخالق وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.

وأخيرا فى القاهرة مع  ليلة صيفية ،الناس فى المنزهات والحدائق ليعانقوا نسيم الأزهار وروائع الليالى المتلألئة . إفترشوا على السواحل والحدائق .. حياتهم بين  نهار مشمس وبين ليالى لطيفة عليلة ترش النافورات لتبلل الأرض والأشجار….سكنت بمدينة نصر فى شقة  بالشارع موسى كاظم ، تحيرت الشقة برقمها.. بجرسها وبعنوانها ، حفظت العنوان حيث موسى كاظم معروف ، كلما أردت جرس الشقة أضع يدى على الشقة المجاورة ويفتح الجار ويسأل ولكن ماذا أقول ،ثم  يطفىء المصباح وأنا هابط أوصاعد  فأحاول بإضاءته فأضع يدى على جرس قوم فى العمارة فأسمع مين … مين ..ثم أحاول فأضع على جرس قوم أخر وأدخل الشقة حائراً تائهاً.

طهى الطعام …غسيل الملابس ..كناسة الغرفة … قائمة متنظرة ، تذكرت بيتنا الجميل

وأخواتى وخادمات بيتنا …فى أول يوم  للمطبخ ساعدنى الزميل عبد القادر متدربا عنده حاولت كل شئ وجهزت بأحسن طريقة…. جلسوا حول المائدة نظرونى كنظرة رجل واحد، تعجبت ..قالوا نسيت الملح ولم أقل إلا ما علش ..إستعملوا الليمون ثم ضحك زميلى عبدى  يذكرنى المثل الصومالى… إذا لم تجد البن تجد بديله.

ومن شقة الزملاء الى شقة جديدة فى مساكن البعثة  … حجرتى عنبر للمذاكرة ومصيف فى الصيف تداعبنا الأغانى من زمن العود ..يتسرب العود وتنساق الوجدان مع عبق الماضى الجميل

حين تشقشق الفجر وأذن المؤذن وتوقف الأشجار تمايلها  لتستجيب الأذان وتتفتح آذانها لنداء الحق و الرحمة… تثلج الأفئدة وتتنعم الأرواح  بقطرات الوضوء وتسقى القلوب رحمة العالمين….

ومن بلكونة الجار منذ سنين عيون تراقبنى بعين الرحمة والرأفة….. تحس وتشعر بأنى طالب البعثة وفى حاجة الى مساعدة بغسيل الملابس ، وطهى الطعام وتسأل نفسها  لماذا لا تساعده ؟

ولكن كيف أجد جوابا لتلك الأسرار…أسدلت الستار مدة حتى ظنت أننى على الفراش مريضا أو عائدا الى وطنى … وفى يوم رحيلى أرى عيون مكحلة تشفق على مشقتى…عواطف مكنونة تتعانق أرواحها وأحاسيس بالنظرات تتخاطب…. كانت واقفة يردد قلبها  …وداعا… وداعا ..ولكن تبقى الأيام باسمة  مع الوداع  وغدا إنى راحل إلى وطنى ناجحا حاملا شهادة عليا.

 

عبد الرحمن شيخ محمود الزيلعى    كاتب من الصومال

[1] – االصومال

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.